إذا ما وصلت العاصمة العراقية بغداد وشاهدت بعض الأدخنة تتصاعد من شوارعها فلا تستغرب، ليس هذا بحريق لا سمح الله، بل شخص يشوي السمك ويبيعه على قارعة الطريق!! نعم .. عندما تشم الرائحة ستتأكد من ذلك. فأنت أمام أكلة عراقية خالصة يمتد عمرها إلى آلاف السنين وباتت اليوم الأشهر على الموائد وفي قوائم المطاعم أينما حللت في بقاع الأرض حتى لو كنت في لندن، لذلك أصبحت خير سفير لمطبخ بلاد ما بين النهرين .. ما دام المطعم عراقي "استريح عيوني، عدنه سمك مسكوف ".
ليس أي سمك، ولا أي طريقة شوي .. هذه عراقية خالصة، وإلا ففي جميع البلدان هناك سمك ويعرفون كيف يشوونه، فلم مذاق المسكوف العراقي هو الألذ باعتراف جميع من انكب عليه والتهمه وطبع مذاقه في ذاكرته وبات يحن أن يعود يوماً ليقضي على مسكوف آخر؟ هذا هو رأي كل شخص نلتقيه ومن جميع الجنسيات، حالما يعرف أنك عراقي حتى يذكر المسكوف.
طبق سمك المسكوف يعود إلى أكثر من 4500 عام
في وقت ما صرح باحثون أن أكلة سمك المسكوف جزء من مطبخ عراقي يعود إلى أكثر من 4500 عام، هذا ما أعلنته بعثة عراقية إيطالية عندما كانت في مهمة تنقيب ووجدت صحن بالقرب من آثار أور جنوب العراق قال الخبراء إن فيه بقايا وجبة مسكوف، صحيح أن الأمر شكل نوعاً من المفاجأة للباحثين العراقيين المعاصرين إلا أن ذلك ليس بغريب، حيث إن إعداد المسكوف لا يحتاج سوى لنار وبعض الأغصان، أو الخشب، وسكين ثم تجلس على ضفاف دجلة أو الفرات وتستمتع بتناوله.
ومهما كان منشأ هذا الطبق فمن المؤكد أنه استحوذ على اهتمام وبطون العراقيين وكل من يزور هذا البلد، فالنصوص السومرية تشير إلى طرق طبخ شبيهة بتلك الخاصة بالمسكوف، والروائية الشهيرة أجاثا كريستي وجدت أن تناول المسكوف "مغامرة"، وحتى يومنا الحاضر كل عراقي خارج بلده عندما يتناول المسكوف تشتعل في داخله الذكريات والحنين للوطن وترتسم في مخيلته آلاف الصور واللحظات التي كان كان المسكوف حاضراً فيها .. مشهد يذكرنا بالروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست وكعك المادلين الذي أعاده إلى الماضي فكتب بسببه مئات الصفحات.
أسرار المسكوف العراقي
أحد أسرار روعة المسكوف العراقي أنه يعتمد على نوع معين من السمك وأفضله الشبوط أو البني، وكلاهما يعيش في نهري دجلة والفرات، بمعنى أن هذه الطريقة لا تفلح مع أي نوع آخر من الأسماك وحتى لو فلحت فلن يكون المذاق نفسه، كما ينبغي أن يكون السمك طازجاً. والسر الآخر الذي لا نجد غضاضة عن البوح به هو كيفية تحضير السمك، أما السر الثالث فيتعلق بسرعة عملية الشوي.
المسكوف لا يحتاج أصلاً إلى وقت طويل، إذ يتم سحب السمكة وهي حية من حوض الماء، وأحياناً كثيرة يختارها الزبون بنفسه، ثم يضعها "السماك"، أي بائع السمك، في الميزان ليعرف وزنها لأن البيع بالكيلوجرام. وبعدها يحين موعد حركة غير محبذة بالطبع لدى الزبون وهي الإجهاز على السمكة التي لا تزال تتلوى على الميزان أو طاولة تحضيرها، بعدها يبدأ "السماك" عمله بشق السمكة طولياً من الرأس حتى الذيل وإخراج ما فيها من أحشاء قبل غسلها بالماء ورش كومة من الملح الصخري داخلها، إضافة بالطبع إلى الخلطة الخاصة بكل "سماك"، التي من الصعب الحصول على أسرارها منهم، ولكنها عموماً مكونة من حامض الليمون مع بعض الخل والكركم والتمر الهندي وإضافات أخرى سهل الحصول عليها للغاية . تصبح السمكة آنذاك مفتوحة كلياً، بعدها يقوم "السماك" بعمل فتحتين أو ثلاث في جلدها ليغرس الأوتاد فيها تمهيداً لوضعها أمام النار، فالمسكوف لا يوضع على النار بل أمامه وعند الانتهاء من الجزء الأمامي يحملها "السماك" ويضعها فوق الجمر على ظهرها، كي تكون جاهزة من الجانبين.
وهكذا، لا يستغرق أمر تحضيرها للشوي سوى دقائق، ولكن وضعها على الطاولة ليلتهمها الزبائن يحتاج إلى وقت أطول بكثير، إذ إن طول مدة شيها ومذاقها ولذتها والافتتان بطعمها مرتبطة ببعضهما البعض، فحينما تزيد مدة بقائها أمام النار فسيزيد معها الشعور بأنك في عالم آخر من فنون ومذاق الطهي. وعلى العموم، لا يقل وقت إعداد المسكوف عن ساعة، كما أن مكان وضعها أمام النار يلعب دوراً كبيراً في مذاقها، فالزبون القادم على عجالة ويود التهام المسكوف بسرعة سيجعل "السماك" يضع السمكة في موقع أقرب من النار كي تصبح جاهزة بشكل أسرع، أما اذا ما حجزت السمكة وتركت الأمر بيد "السماك" فسيكون مكانها أبعد عن مصدر النار وبالتالي سيكون الشوي ببطء وستستمتع بمذاق لا ينسى. وعلى ذكر النار، نجد أن شوي المسكوف العراقي يعتمد أساسا على وهج النار وليس النار نفسها، كما لا يستخدم "السماكون" في العراق أي خشب للشوي بل نوع معين غالباً ما يكون خشب أشجار الليمون أو التفاح أو الخشب الصلب عموماً كي يمنحه النكهة المطلوبة.
الآن أصبحت السمكة جاهزة، يضعها "السماك" على طاولة الزبون "تفضل عيوني، ألف عافية"، مع ملحقاتها الضرورية للعراقيين مثل "العنبة" أو "العمبة " باللهجة العراقية، وهي مادة سائلة (وأحياناً مسحوق يذوب في الماء) مستخلص من المانجو مع إضافات أخرى، وهي أيضاً من الأكلات الشعبية في العراق تجدها حاضرة بقوة خاصة مع "الفلافل" . وبجوار المسكوف على الطاولة يحضر الليمون والبصل والطماطم والخضراوات علاوة على، بطبيعة الحال، الخبز العراقي الساخن "من التنور". تؤكل سمكة المسكوف باليدين، على الطريقة الأصلية، ويبدأ الزبون برفع العمود الفقري منها قبل أن يغمس أصابعه في لحمها ويسحبه ليضعه في فمه .
أكيد أنك الآن متشوق لتذوق المسكوف، توجه إلى أقرب مطعم عراقي واسأل "اشلونكم عيوني، عدكم سمج مسكوف؟".