فرنسيات يتظاهرن ضد التحرش الجنسي
بعد موجة فضح المتحرشين وحركة «مي تو» التي انطلقت من الولايات المتحدة وترددت أصداؤها في العالم، ها هي فرنسا تدخل مرحلة جديدة من مراحل الكشف عن المستور. إنها قضايا تدخل في باب ما يعرف بـ «سفاح الأقارب».
فقد تجرأت عدة نساء على التقدم بشكاوى ضد رجال من العائلة تحرشوا بهن جنسياً في طفولتهن. وعلى الرغم من أن سنوات كثيرة مضت على تلك الوقائع فإن المجتمع لا يعترف بالقانون الذي يجعل القضايا تسقط بالتقادم بل يستقبل شهادات الضحايا بكثير من التعاطف ويدين الجناة مهما كانت مراكزهم ومواهبهم.
لماذا سكتن كل تلك السنوات؟
في البداية قيل إن هؤلاء النساء يبحثن عن الشهرة، أو عن تعويضات مالية مجزية. وكان الاعتراض الجاهز المشهر في وجوههن هو «لماذا سكتن كل تلك السنوات؟». هل سكتن دهراً لينطقن كفراً.. كما يقول المثل؟ لكنها ليست هذه المرة، دعاوى تتقدم بها إلى القضاء فتيات مغمورات ضد ممثلين أو مطربين من المشاهير أو نجوم كرة قدم.
هذه ليست شكاوى من النوع الذي شغل الصحافة الفرنسية ضد المغني سعد المجرد أو مغني الراي الشاب مامي أو اللاعب فرانك ريبيري، وهي ليست قضايا ابتزاز بل قنابل موقوتة تهيأت لها الظروف لكي تنفجر في وقت واحد.
إذا كان العام المنصرم هو عام «كورونا» فإن العام الحالي في فرنسا هو عام سقوط الأقنعة عن وجوه شهيرة كانت تحظى بالاحترام والإعجاب. محامون، ممثلون ومخرجون، وزراء سابقون، مديرو شركات، والتهمة هي التحرش بفتيات قاصرات أو فتيان قاصرين من محيط الأسرة. ولعل ما يزيد من الأصداء المدوية لهذه الفضائح هو أنها جرت في أوساط النخبة الفكرية والثقافية، بل بالتحديد في الأوساط اليسارية التي كانت عالية الصوت في الدفاع عن حقوق الإنسان ونصرة الضعيف والمظلوم والفقير. ولسنا عنصريين لكن لا يمكن أن نغفل أن المتهمين في معظم تلك القضايا هم من الصفوة اليهودية في المجتمع الفرنسي.
فضيحة السياسي والحقوقي البارز أوليفييه دوهاميل
المحامية كامي كوشنير، ابنة الوزير السابق برنار كوشنير
في الشهر الماضي، صدر كتاب أحدث ضجة كبيرة ما زالت تردداتها سارية حتى اليوم. وعنوان الكتاب هو «العائلة الكبيرة»، والمؤلفة هي محامية وأستاذة جامعية لمادة القانون الخاص تدعى كامي كوشنير. إنها ابنة الطبيب والوزير السابق برنار كوشنير، أحد مؤسسي المنظمة الإنسانية المعروفة عالمياً «أطباء بدون حدود». وكان كوشنير قد انفصل عن زوجته الأولى الأستاذة الجامعية إيفلين بيزييه ليتزوج من نجمة التلفزيون الصحافية كريستين أوكرانت، ومن جانبها تزوجت إيفلين من السياسي والحقوقي البارز أوليفييه دوهاميل، الشخصية التي كانت فوق الشبهات والرجل الذي يجمع حول مائدته صفوة رجالات المجتمع. لكن صاحبة الكتاب تكشف وجهاً آخر لزوج والدتها.
وتؤكد أنه كان يتحرش جنسياً بشقيقها التوأم ويجبره على أفعال غير سوية. وكان الشقيق في الثالثة عشرة من العمر، يومذاك. لم يحاول دوهاميل نفي التهمة بل استقال من مناصبه وقرر التواري.
ما يصدم في الكتاب ليس التطرق إلى ما يعرف بـ «سفاح الأقارب» بل في تأكيد المؤلفة على أن عدة أشخاص داخل العائلة قد تبلغوا بالأمر، ومنهم إيفلين والدة الضحية، لكنهم آثروا الصمت وكتم الفضيحة.
وقد بررت الأم أفعال زوجها بأنه كان يحاول تثقيف ابنها المراهق جنسياً. وفيما بعد انتحرت الوالدة تحت وطأة القهر. والوحيدة التي رفضت الصمت وطالبت بكشف المعتدي كانت ماري فرانس بيزييه شقيقة إيفلين، أي خالة المؤلفة، وهي ممثلة كانت من نجوم الصف الأول في السينما الفرنسية.
والغريب أنهم عثروا عليها جثة طافية في بركة السباحة في بيتها. ولم يقرر التحقيق إن كانت للحادث شبهات جنائية.
النجم السينمائي ريشار بيري يتحرش بابنته
كولين بيري، الابنة البكر للنجم السينمائي ريشار بيري
هذا السكوت والتكتم على مباذل الشخصيات المتنفذة عاد إلى السطح بعد الفضيحة الجديدة التي كشفت عنها امرأة أربعينية ثانية هي كولين بيري، الابنة البكر للنجم السينمائي ريشار بيري. ففي مطلع الشهر الحالي تقدمت ببلاغ ضد والدها إلى شرطة حماية القاصرين بتهمة إجبارها على تأدية أفعال جنسية معه ومع زوجته الثالثة المغنية الأمريكية جين مانسون. وكالعادة، كان هناك من تطوع للسؤال «لماذا تتحدث الآن بعد أن سكتت كل تلك السنوات؟». وجاء الجواب عبر حديث للمدعية مع إذاعة «فرانس أنفو» قالت فيه «لم أكن قادرة على الصمت فإما أن أفرغ ما في صدري أو أن أفطس». إن موجة تحرر الألسنة من الخوف من الشعور بالعار هو الذي دفعها إلى تسليط الضوء على ذلك الماضي الفاسد، لكي تتشجع كل النساء وتكشفن الآباء والأقارب المتحرشين لكي ينالوا عقابهم، ولو بعد فترة من الزمن.
المواطن العادي مصدوم لأن الفضائح تجري في الأوساط المخملية
إن ما يسمى بـ «زنا المحارم» قضية تنتشر في الأرياف الفرنسية العميقة ويتم التكتم عليها بتواطؤ أفراد الأسرة. ففي تلك المجتمعات البعيدة المعزولة، حيث تتباعد المساحات المزروعة ولا يعرف السكان جيراناً لهم، يحدث أن تخضع البنات لنزوات جد أو عم أو حتى شقيق. وقد كشفت الصحف عن قضايا نجمت عنها ولادات غير شرعية. وكان الأطفال يعيشون ويكبرون داخل أسوار المزارع والكل يكتم السر. ثم جاءت حملة «مي تو» ولم تعد الضحايا يخجلن مما حل بهن، فالطفل لا يتحمل وزر الشخص البالغ الذي استغل براءته. وهو ما كشفته كولين بيري من أن والدها كان يستغلها في «ألعاب جنسية». وأدلت، في مقابلة مع صحيفة «لوموند»، المدعية البالغة من العمر حالياً 45 عاماً بتفاصيل مطولة عما كان يقوم به أبوها من مداعبات حين كانت صغيرة. وكشفت أنه كان يدعوها وأختها غير الشقيقة لمشاركته الفراش مع زوجته الأمريكية ويتنقل عارياً داخل البيت ويتحرش بصديقاتها.
الممثل البالغ من العمر 70 عاماً والذي يمتلك في رصيده 100 فيلم، نفى اتهامات ابنته ووصفها بأنها مريضة ومختلة عقلياً. وقال عبر منشور له على «إنستغرام» إنها تحتاج لعلاج نفسي وإن كل مزاعمها هي أوهام وتخيلات. لكن التحقيق ما زال جارياً. فقد جاءت قضية دوهاميل وبيري لتشجع نساء ورجال آخرين على كسر حاجز الصمت والعيب والمبادرة لفضح شخصيات معروفة واتهامها، لا بالتحرش بالنساء، بل بالأطفال القاصرين ضمن محيط الأسرة. ومن المنتظر أن تقود الجمعيات النسائية ومنظمات رعاية الطفولة حملة لتوفير الحماية للضحايا ولتعديل التشريعات وتشديد العقوبات في مثل هذه القضايا.
قضية تحرش وودي ألن بزوجته تعود إلى الواجهة
المخرج والممثل وودي ألن
تعيد سلسلة الفضائح الفرنسية قضية مماثلة في الولايات المتحدة بطلها المخرج والممثل وودي ألن، المتهم بالتحرش بابنته بالتبني ديلان فارو حين كانت في السابعة من العمر. وهناك اليوم مسلسل وثائقي يفتح ملفات تلك القضية عبر أربع حلقات مدعمة بشهادات ووثائق قانونية ترسم صورة رهيبة للمخرج الشهير. ومن المقرر أن يعرض المسلسل في فرنسا الشهر المقبل. وهي اتهامات ينفيها المخرج الأمريكي باستمرار. ومن المعروف أن وودي ألن انفصل عن ميا فارو لكي يتزوج من ابنتها بالتبني، وهي الشابة الآسيوية سون يي بريفين. ويزعم أصحاب المسلسل أنه أقام علاقة معها قبل الزواج، حين كانت قاصرة، وعندما تزوجا فإن فارق السن بينهما كان 35 عاماً.
وهناك اليوم فضيحة ثالثة بطلها المذيع التلفزيوني الشهير باتريك بوافر دارفور الذي تتهمه إحدى الصحافيات الشابات بأنه اغتصبها حين كانت في العشرين من عمرها. وعلى الرغم من أن الضحية ليست من أقارب المذيع لكنها تؤكد أنه استغل براءتها لأنها لم تكن لها أي تجربة عاطفية من قبل بسبب معاناتها من ورم في الدماغ وخضوعها لعملية صعبة. ومع توالي الفضائح فإن المواطن العادي في فرنسا لم يعد يصاب بالصدمة وهو يرى سقوط الأقنعة عن وجوه كانت محترمة. والرأي العام يميل إلى محاكمة المتورطين، وهناك توقعات بظهور قضايا جديدة بعد انكسار حاجز الصمت والأسرار.