15 أبريل 2021

لماذا تبكي النساء في مطعم الشيف هيلين؟

كاتبة صحافية

لماذا تبكي النساء في مطعم الشيف هيلين؟

هي واحدة من أبرز طهاة الصف الأول في فرنسا. كما أنها من بين نساء طباخات معدودات على أصابع اليد الواحدة، حققن شهرة عالمية وفتحن مطاعم في الخارج. إن الشيف هيلين داروز لا تجد الوقت للكلام والثرثرة. لكنها تحتاج، أحياناً، إلى أن تضع الملعقة الخشبية جانباً وتخلع صدرية المطبخ وتنتهز ساعة من الزمن تتحدث فيها عن شبابها الذي أمضته وراء الأفران وعن مطعمها الذي تبكي فيه بعض الزبونات.

لماذا تبكي النساء في مطعم الشيف هيلين؟

كان يمكن لهذه الشقراء ذات العينين الزرقاوين أن تشتغل في السينما، أو أن تكون من سيدات المجتمع الراقي اللواتي لم يدخلن مطبخاً في حياتهن. لكن هيلين داروز أحبت الطبخ منذ نعومة أظفارها. وهي اليوم ما زالت تحتفظ بملامح الطفولة رغم أنها بلغت من العمر 54 عاماً. وهواية الطبخ ليست صفة غريبة، فكل النساء يطبخن وجبات عائلاتهن منذ بدء الخليقة. لكن هيلين مضت في هوايتها إلى درجة العشق وجعلت من الطبخ مهنة لها، وافتتحت مطاعم شهيرة ونالت نجوماً يشقى عتاة الطهاة في سبيل الفوز بها.

 إن النجمة التي تمنح للطباخ في كتب التقييم العالمية، مثل دليل «ميشلان»، هي بمثابة شهادة الدكتوراه لطالب العلم والباحث في مختلف حقول المعرفة.

نالت لقب «أفضل طاهية في العالم» وفق تصنيف «50 Best»

يعرف الفرنسيون هيلين داروز منذ أن نالت نجمتها الأولى عام 2001، ثم حصلت على نجمة ثانية بعد سنتين، وهو إنجاز كبير لطباخة من خارج حلقة القلائل من الطباخين الرجال المشاهير في فرنسا. وفي عام 2015 نالت لقب «أفضل طاهية في العالم» وفق تصنيف «50 Best». لكن شهرتها تعززت حينما تم اختيارها في ذلك العام نفسه لتكون من ضمن لجنة التحكيم في النسخة الفرنسية من البرنامج التلفزيوني الرائج «توب شيف».

لم تتزوج وتبنت طفلتين يتيمتين من أصل فيتنامي

لم تسمح هيلين لمهنتها بأن تفسد حياتها الخاصة. صحيح أنها لم تتزوج وكانت مثل راهبة تتعبد في محراب مطبخها لكنها في الوقت ذاته أسست عائلة من خلال التبني. فقد تبنت طفلتين يتيمتين من أصل فيتنامي، شارلوت البالغة من العمر اليوم 14 عاماً وكيتيري الأصغر بسنتين. وبهذا أشبعت غزيرة الأمومة لديها. ورغم نجاحها كامرأة في ميدان كان محتكراً من الرجال فإنها لا تحب أن توصف بالرائدة والمناضلة النسوية. إن من يراها في مطعمها «مارسان» الواقع في الدائرة السادسة من باريس يجدها تماماً مثلما يراها في التلفزيون. سروال أسود وقميص رجالي أبيض بسيط وشعرها مرفوع في ضمة وراء الرأس. وهناك في زاوية خاصة وراء المطبخ يرقد كلبها المدلل مستريحاً وسط قرقعة القدور والطناجر.

مع ابنتيها


لماذا أحبها الجمهور العريض؟

تبدأ الشيف هيلين صباحها بالسلام على فريق الطباخين المساعدين العاملين معها في هذا المطعم ذي النجمتين. إنها واحدة من امرأتين في فرنسا حصلتا على نجمتين. وهناك مطعم ثان لها في باريس وثالث العاصمة البريطانية لندن مصنف بثلاث نجوم. لقد أحبها الجمهور العريض من خلال الشاشة حتى لو لم تكن تسمح لهم ظروفهم بارتياد مطاعمها. وسبب المحبة هو شخصيتها الكريمة وطبعها الأمومي. أما شعارها في الحياة فهو «الاستقلال». ونفهم هذا الشعار عندما نعرف أنها ولدت في أرياف غرب فرنسا، وتنتمي لعائلة من الطباخين، تعلمت المهنة من أبيها وعمها وأبناء عمها ثم شقت طريقها وحدها في الحياة وقصدت العاصمة وحققت فيها ما لم يحققه أحد منهم. بل إنها عملت في مطبخ القصر الرئاسي «الأليزيه» لفترة من الزمن.

يتهمها زملاؤها الطباخون الكبار بأنها تزعم بوجود أسلوب نسائي خاص في المهنة. وهي تدافع عن نفسها بالقول إن الطبخ هو أمر ينبعث من نفس صاحبه ويتأثر بمشاعره وبحساسيته. ولا يمكنك إنكار أن هناك حساسية ذكورية وحساسية أنثوية. هذه هي الطبيعة. لكن بعض الطهاة الرجال، مثل بيير جانيير، لديهم مقاربات أنثوية تماماً، وهناك طباخات من النساء لديهن مقاربات ذكورية. وباختصار فإنها تؤمن بأن النساء يطبخن بهدف مشاركة الآخرين في شيء ينبع منهن، بينما يطبخ الرجال لإظهار التقنيات والمهارات.

في برنامج «توب شيف»


وفي برنامج «توب شيف»، هناك زملاء لها في لجنة التحكيم لا يعترفون بوجود حساسية خاصة نسائية في الطبخ. فكيف تتفاهم معهم؟ إنها تعترف أن النقاشات تسخن عند الاختيار بين المرشحين. وهناك وجهات نظر مختلفة تماماً بين المحكمين. وفيما يخصها تقول إن قرارها ينبع من الإيحاء العاطفي الذي يمنحه لها الطبق المعروض عليها. بينما يحاول زملاؤها رؤية الإمكانات الموجودة لدى المتسابقين، وإلى أي مدى يمكن أن يمضي المرشح. ولهذا فإن معيارها في التحكيم مختلف، وقد يكون فريقها أقل تقنية من بقية الفرق، لكنه ليس سبباً لاعتباره فاشلاً أو عاجزاً عن تقديم أطباق ممتازة ومدهشة.

بعض النساء يجهشن بالبكاء من التأثر حين يدخلن مطعمها ويشاهدنها

حصلت هيلين داروز على نجمتين جديدتين في دليل «ميشلان» مخصصتين لمطعميها في باريس ولندن. وهو أمر جعلها تدرك أهمية الموقع الذي بلغته وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقها. وتعترف بأن بعض النساء يجهشن بالبكاء من التأثر حين يدخلن مطعمها ويشاهدنها وجهاً لوجه. وهو ما يؤكد لها أنها صارت ملهمة للعديد منهن، لاسيما الشابات الراغبات في العمل طاهيات من الدرجة المميزة. لكن هذا الانبهار بها لا يجعلها تشعر بالغرور ولا بالتصرف وكأنها مثال يحتذى. إن كل ما تبغيه هو أن تطبخ بشغف.

تحارب التمييز الذكوري ضد العاملات من النساء

هناك، داخل مطابخ المطاعم والفنادق الكبرى، نوع من التمييز الذكوري ضد العاملات من النساء. وتشعر هيلين بأن من ضمن واجباتها أن تحارب هذا الواقع. لكنها، كما سبق وقلنا، لا تميل للعمل «النضالي» وتقول «إذا كان في مقدوري أن أكون قدوة للمرأة وأن أقدم شهادة على تجربتي فإن هذا أفضل بكثير من الصراخ بالشعارات. لست ناشطة نسوية، في الوقت الحالي على الأقل، لكنني ملتزمة بضرورة تعزيز مكانة المرأة في المجتمع من خلال إجراءات معينة، قانونية ونقابية. لكنني لا أملك الوقت لفعل المزيد». وهذا لا يعني أنها مواطنة أنانية. فهي من رعاة منظمة «أفغانستان حرة» غير الحكومية والتي تعمل على تسهيل وصول الفتيات والنساء إلى التعليم. وقد تطوعت بالطهي مع اللاجئات في ميناء «كاليه» شمال فرنسا.

تلتزم بقضايا المرأة لكنها تكره رفع الألوية وإطلاق الشعارات

تقول «لا شك أنني سأتخذ موقفاً عندما أجد الأسباب الصحيحة. مع هذا أؤكد بأنني لا أشعر بالحاجة إلى أن أكون حاملة لأي لافتة أو لواء. إلى جانب ذلك، سيكون من الصعب عليّ أن أكون مناضلة حقيقية في قضية لم تمسني، فأنا لم أواجه التحيز الجنسي في وظيفتي مطلقاً، لكنني كنت شاهدة عليه مرة واحدة في مطعمي. فقد اشتكت إحدى العاملات الشابات من أن المسؤول عنها يعاملها بفظاظة، وللعلم فإن المسؤول المقصود صار طاهياً شهيراً اليوم. ويبدو أنه كان عنيفاً مع الجميع. وقد استدعيته ونبهته ووضعت النقاط على الحروف».

بخصوص ابنتيها بالتبني، تحاول هيلين داروز أن تضرب لهما مثالاً جيداً. وهي تكرر عليهما ما سمعته من والدتها بأن على المرأة أن تكون مستقلة لكي تتمكن من مواجهة مطبات الحياة. وهو أمر ما زالت تؤمن به وتحاول نقله لابنتيها. لقد كانت حياتها كلها تعبيراً عن تمسكها بحريتها. وهي تعي بأن نجوميتها في التلفزيون تحتم عليها الالتزام بسلوك معين ومرصود. لكنها لا تنسى أن كل ما بلغته كان ثمرة سنوات طوال من الاجتهاد والعرق والسهر والدموع. إنها لا تحب استخدام كلمة «أفتخر» بل يكفيها أن تشعر بالرضى حين تنظر إلى الماضي وتعاين الدرب الشاق الذي قطعته. ولأن الأمور نسبية فإنها تقول ما معناه: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، ولا تقارن نفسها بميشيل أوباما، مثلاً.

إحدى ابنتيها


لماذا لا نرى كثيراً من النساء بين كبار الطهاة؟

السبب، برأيها، أن فن الطهي يتطلب الكثير من الخيارات. وفي حال كانت الطاهية ربة أسرة فإنها، على سبيل المثال، لن تتمكن ليلاً من المشاركة في «تحميم» أطفالها وتعهد للمربية أو لشخص آخر بفعل ذلك. إنه اختيار لا تريد بعض النساء القيام به. لقد ولدت إحدى زميلاتها في مطعم لندن طفلاً للتو واختارت التوقف عن عملها كطاهية. كما أنه من الصعب على المرأة السهر في المطعم ليلاً. الرجال لا يمانعون في فعل ذلك، لكن النساء لا يسمحن لأنفسهن به. فضلاً عن انعدام الخيار لأن أزواجهن لا يحبذون استمرارهن في المهنة.

مثل كبار الشخصيات، تحمل هيلين داروز وسامين، الأول هو وسام الكفاءة المهنية والثاني هو وسام الشرف الفرنسي من رتبة فارس. فالطاهي ذو المرتبة المتقدمة لا يقل في منزلته عن العلماء والمخترعين والأدباء وكبار الرياضيين ونجوم الفن. وعندما يفارق الحياة «شيف» معروف؛ فإن رئيس الجمهورية هو الذي ينعاه ببيان من الرئاسة.