أطلق عليها الملك لويس السادس عشر لقب «المرأة الاستثنائية». فقد كانت جان باريه واحدة من أوليات المستكشفات في العالم. ركبت سفينة المغامرة وتبعت أستاذها وكانت أول امرأة في التاريخ تقوم بالدوران حول العالم. واليوم تستعيد فرنسا سيرتها في مسعى لتعريف الأجيال الجديدة ببطلات من زمان مضى.
الصدفة هي التي قادت جان باريه لأن تكون رحالة وعالمة نبات، وهو أمر كان مستحيلاً في القرن الثامن عشر، فهي قد التحقت ببعثة بحرية رافقت فيها معلمها بوجنفيل، عالم النبات الفرنسي الشهير، واضطرت في سبيل ذلك لأن تتنكر في زي رجل، لكي يقبلوها على ظهر السفينة، وسط عشرات البحارة الرجال.
تنص المادة 35 من القانون الملكي الصادر في 15 إبريل 1689 لتنظيم عمل البحرية «يمنع صاحب الجلالة ضباط البحرية من السماح بصعود امرأة إلى بواخرهم سواء لقضاء الليل أو لتمضية فترات أطول». لم يكن من الوارد التفكير بوجود نساء على متن السفن، فمن شأن ذلك تشتيت أذهان البحارة الذين يمكن أن ينصرفوا عن مهماتهم، ولا تتجه أنظارهم إلا إلى النساء.
إن البحر هو ميدان الرجل. ولكي تترسخ هذه الفكرة لجأوا إلى الخرافة وزعموا بأن صعود امرأة إلى رحلة بحرية يمكن أن يكون نذير شؤم، أي أن يعرض السفينة ومن فيها للغرق.
ربطت صدرها بمشدات، وقدمت نفسها على أنها رجل
في مثل تلك الأجواء، وذات صباح من أواخر عام 1766، صعدت جان باريه على متن الباخرة «إيتوال» من ميناء روشفور الواقع على المحيط الأطلسي، غرب فرنسا. كانت تلك السفينة واحدة من اثنتين استأجرهما الكونت لويس دو بوجنفيل، وقد حملتا معه نحو 120 رجلاً رافقوه في أول جولة حول العالم تتم تحت العلم الفرنسي. كانت بعثة علمية ضمت فلكيين ورسامي خرائط ومهندسين وعلماء طبيعة ورسامين وكتّاباً. والمبحرون كانوا يمثلون خلاصة فكر النهضة التي طبعت عهد الملك لويس الثامن عشر. أما المرأة الوحيدة بينهم فقد كانت في السادسة والعشرين من عمرها، وتُدعى جان باريه، وليس لها من صفة سوى أنها معينة فلبير كومرسون، عالم النبات المعتمد من الملك. وبما أن اسمها يصلح للرجال فقد قصت شعرها قصيراً مثل الذكور، وربطت صدرها بمشدات، وقدمت نفسها على أنها رجل. والحقيقة أن طاقم السفينة ظل يعتقد أنها خادم كومرسون، وليس خادمته ومعينته في أشغاله.
أول امرأة تدور حول العالم من شرقه حتى غربه
لم تكن جان مجرد خادمة، بل كانت حبيبة كومرسون ومنسقة اكتشافاته وممرضته أيضاً. فقد كانت صحته ضعيفة، وهي كانت قد رافقته في كل أبحاثه النباتية ومستعدة لعمل أي شيء في سبيل أن تكون معه في تلك الرحلة التاريخية التي ستصبح علامة في مسيرة علماء الطبيعة. ففي كل ميناء حطت فيه السفينة، كانت جان تنطلق مع معلمها، للبحث عن الأزهار والنباتات النادرة وغير المعروفة في فرنسا، وتقوم بمراقبة نماذج منها وتصنيفها وإحصائها وأخذ عينات منها والاحتفاظ برسوم تخطيطية لها. والغريب أن المساعدة المفتونة بمعلمها والمغامرة العاشقة له لم تكن تعرف، آنذاك، أنها ستدخل التاريخ وتصبح، رسمياً، أول امرأة تدور حول العالم من شرقه حتى غربه؛ بل إنها لم تكن تتمتع بالذهنية المطلوبة أو المستوى الفكري الذي يؤهلها لهذا الموقع بين خيرة علماء عصرها.
في قرية كوميل الصغيرة، وسط شرقي البلاد، ولدت جان لوالدين فلاحين في صيف 1740، توفيت والدتها بعد سنوات قلائل ولحق بها والدها. أصبحت يتيمة الأبوين وهي دون الـ20، منذورة للفقر والبؤس. وعلى الرغم من ذلك فإنها تعلمت القراءة والكتابة، الأمر الذي كان نادراً بين الفتيات. وبفضل ذلك دخلت خادمة في منزل نبيل من جيرانها، كان طبيباً ومهتماً بعلم النبات يُدعى الدكتور كومرسون. ولما توفيت زوجة الطبيب في عام 1762، تاركة له ولداً وحيداً، صارت جان مربية الطفل ومعلمته، إضافة إلى إدارة المنزل.
انضمت جان باريه إلى المغامرة تحت هوية مزورة
كان الطبيب معجباً بنباهة خادمته فراح يعطيها بعض الدروس، ويدربها على تحضير الأعشاب؛ بل يوكل إليها تلك المهمات. وهي بدورها كانت مأخوذة بذلك الميدان الجديد عليها، وسرعان ما أصبحت السكرتيرة الشخصية لكومرسون. وأسهم اقترابهما في نشوء عاطفة خاصة فقرر الاثنان الانتقال إلى باريس، والابتعاد عن تقولات أهل القرية، خصوصاً وأن الدكتور العاشق كان قد اختير طبيباً للملك ومستشاراً نباتياً له. وإضافة إلى ذلك دعاه الملك للالتحاق برحلة بوجنفيل العلمية حول العالم. ولم يكن يدور في باله أن يترك حبيبته وراءه، لاسيما وأنها كانت حبلى بجنين، لكنها فقدته فيما بعد، قبل السفر.
كان من المستحيل أن يسافر أحدهما دون الآخر. وهكذا تفاوض كومرسون مع بوجنفيل حول حاجته لوجود مرافق يعينه في رحلته، وهو ما وافقه عليه صاحب الرحلة. وبهذا انضمت جان باريه إلى المغامرة تحت هوية مزورة. وقد ورد ذكرها في مدونات بوجنفيل نفسه، وكذلك في يوميات كومرسون وغيرهما من أعضاء البعثة، ومنهم الأمير ناسوسيجن والجراح فيفيه.
شاركت في اكتشاف زهرة الجهنمية
تدهورت صحة حبيبها ومعلمها خلال الرحلة فصار عليها الاضطلاع بمهمات شاقة مثل حمل المعدات، وجمع القسم الأكبر من 5 آلاف نوع من النبات تم إحضار نماذج منها إلى فرنسا. لقد تمكنت البعثة من تأسيس مجموعة هائلة من الأعشاب واكتشفت، قرب ريو دي جانيرو في البرازيل، شجرة مزهرة رائعة أُطلق عليها اسم «بوجنفيلا»، نسبة إلى قائد الرحلة الكونت دو بوجنفيل، وهي شجرة الجهنمية المعروفة حالياً في بلادنا. وخلال ذلك كتب كومرسون في دفتر ملاحظاته أن جان كانت «حمار الخدمة» ولم يشك أحد في كونها امرأة. لكن الهمسات بدأت تدور حول هويتها. كان فرانسوا فيفيه جراح البعثة يشعر بالغيرة من كومرسون ومن تقريب الملك له، وهو أول من لاحظ غرابة مظهر جان، وكتب في مذكراته أنها كانت قصيرة القامة مع بروز في الصدر وامتلاء في المؤخرة ووجه مستدير يعلوه النمش وصوت حنون ناعم. إن كل ما فيها يوحي بأنها امرأة على قدر بسيط من الجمال. ولعل فيفيه كان المصدر الأول للشائعة التي سرت بأن هناك امرأة على متن السفينة «إيتوال».
وشى بها جراح السفينة لأن قامتها أقرب إلى أجسام النساء
جاء في يوميات بوجنفيل أن هوية جان انكشفت عندما رست السفينة في تاهيتي. فقد أحاط بها السكان ولم يشكوا في كونها امرأة، بل وأرادوا أن يقدموا لها الترحيب الخاص بالنساء الوافدات إلى الجزيرة. ويبدو أن الجميع كان على علم بذلك ومع هذا سمحوا للزوجين بمواصلة الرحلة حتى جزر موريشيوس، حيث نزلا سوية وكانت صحة كومرسون قد تدهورت. وبعد فترة توفي هناك تاركاً جان باريه تشتغل لوحدها وتدير مشرباً في «بورت لويس». وما كان يمكن للمرأة الغريبة أن تبقى وحيدة، فتزوجت من ضابط يُدعى جان دوبيرنا وعادت معه إلى فرنسا، عام 1775 بعد اكتمال الرحلة حول العالم.
بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، تدخل بوجنفيل شخصياً للدفاع عن المسافرة غير الشرعية جان باريه في القصر الملكي والمطالبة بأن تمنح مرتبة ملكية أسوة ببقية علماء البعثة. وقد وافقه لويس السادس عشر على ذلك، بل سماها «المرأة الاستثنائية»، ووردت في المرسوم الصادر بهذا الخصوص إشادة بشجاعة باريه واستحقاقها. وفي الخامس من أغسطس 1807 فارقت الرحالة الشجاعة الحياة. وبعد أكثر من قرنين على وفاتها أحيت فرنسا ذكراها وقررت إطلاق اسمها على زهرة اكتشفها عالم الأحياء إريك تيب في جنوب أمريكا، وسماها «باريتيا».