كل ما فيها يوحي لنشاط مثل عنصر مشّع. إنها مارتا أورتيجا، الإسبانية البالغة من العمر 37 عاماً التي ورثت عن أبيها «زارا»، شركة الثياب الجاهزة المعروفة في العالم كله ، والتي جعلت منه أغنى رجل في إسبانيا. بتسلمها إدارة الشركة التي تنتج ثياباً أنيقة ذات أسعار مناسبة، أصبحت مارتا المرأة الأكثر نفوذاً في إسبانيا.
وبعد عشر سنوات من التفكير قرر والدها تسليمها دفة القيادة وجعلها رئيسة لإمبراطورية «أنديتكس» التي تضم من بين ما تضم علامة «زارا» للثياب الجاهزة.
يعمل في شركتها 175 ألف موظف
انطلاقاً من اسم الشركة، أطلقت الصحافة الإسبانية على مارتا تسمية «زارينا»، أي القيصرة. والغريب أن من يزورها في مقر عملها يكتشف أنها لا تملك مكتباً بجدران مغلقة بل تشتغل في فضاء مفتوح مع مساعديها وفريق عملها، وهو الأسلوب ذاته الذي كان يعمل فيه والدها، أمانشيو أورتيجا، العجوز البالغ من العمر 85 عاماً والمتصدر لقائمة أغنى أغنياء البلد.
أمانشيو أورتيجا
لقد أسس شركته عام 1975 بمساعدة زوجته روزاليا، وبعد نجاح الشركة قام بتوسيع نشاطه وأسس مجموعة «أنديتيكس» عام 1985. ونظراً لأنها لم تأت من الخارج ولم تهبط بالمظلة فإن العاملين في الشركة يعرفون مارتا باعتبارها ابنة رب العمل. وهي ستصبح اعتباراً من الربيع المقبل رئيسة المجموعة.
لماذا مارتا؟
مارتا أورتيجا
لا يكفي أن تكون ابنة صاحب الشركة لكي تنجح في عملها. إن مارتا تتمتع أيضاً بعشق للموضة وتميل في ثيابها للأناقة الرصينة وللأقمشة ذات النقوش المطبوعة الصغيرة والأنسجة المتدرجة الألوان. وبهذا فإنها ستكون خير سفيرة للعلامة التجارية التي نجحت في التسلل إلى كبريات مدن العالم، شرقاً وغرباً. إنها موضة قد تبدو سهلة التقليد، لكن أسعارها تغري بالشراء بدل تضييع الوقت في تقليدها. وعدا عن ثيابها فإن أبرز ما يميز الرئيسة الجديدة هو عيناها السوداوان الذكيتان وتسريحتها «الكاريه» الشقراء الفوضوية، والأهم هو مسيرة صعودها داخل عمليات تجارية ومالية ضخمة تجري داخل الأسرة.
تدير ثروة مقدارها 87 مليار يورو
طوال سنوات، كانت كل الدلائل تشير إلى أن الابنة الصغرى ستكون هي التي وقع عليها اختيار الأب لوراثة مجموعته التجارية. إن لديها أختاً كبرى غير شقيقة تدعى ساندرا، وأخاً يدعى ماركوس، وقد ولدا من الزوجة الأولى للأب، لكنها الوحيدة التي حازت ثقته لكي يسند إليها مسؤولية إدارة 87 مليار يورو. والحقيقة أن الرجل العجوز وضع مارتا في رأسه منذ فترة طويلة لكن السر ظل محفوظاً وكأنه من الأسرار الدفاعية. مع هذا، فإن الإعلان عن اختيارها لوراثة لم يكن له وقع المفاجأة بل جاء بمثابة التتويج الطبيعي لمسيرة طويلة من نقل السلطة داخل العائلة.
وقد بدأت ملامح تلك النقلة تتضح منذ عام 2011، حين قرر الأب أمانسيو أورتيجا التخلي عن منصب الرئيس، وهذا يعني أن البنت تتدرب على حمل المشعل منذ فترة ليست بالقصيرة، بل هي قد دست أنفها منذ 15 عاماً في الشركة التي يزيد عدد العاملين فيها على 175 ألف موظف وعامل، وبهذا فإنها تعرفت إلى مفاصل الإنتاج وتفاصيل الإدارة.
مع زوجها كارلوس توريتا
لقد تنقلت في كل الأقسام دون أن يكون لها منصب رسمي حقيقي، وفي السنوات الأخيرة كانت مارتا هي من يشرف على خطوط الموضة النسائية لدى «زارا» جنباً إلى جنب مع مسؤولة المجموعات الجديدة بياتريز بادان. كما شاركت في تطوير صورة العلامة التجارية، أي «الإيماج»، وهي نقطة أساسية في انتشار أي علامة وديمومتها. ويقول الصحفي إكزابييه بلانكو، المتخصص في الأزياء ومؤلف كتاب «من زيرو إلى زارا»، إن مارتا تفهم في الموضة أكثر من أبيها.
لقد جاءت باثنين من أهم مصوري الأزياء لكي ينفذا الحملات الإعلانية للشركة. وجعلت من الصور الإعلانية قريبة من المتلقي، مثلها مثل الصور التي تنشرها مجلات الموضة. وأيضاً استقدام ممثلات معينات للظهور في الإعلانات، وآخرهن الفرنسية شارلوت جينزبور، وهي ليست من النجمات الحسناوات بل يمكن القول إنها تمثل عموم زبونات «زارا» من النساء.
كما تحرص مارتا على توسيع دائرة معارفها وعلاقاتها العامة، وهي قد دعت قبل أيام إلى ملتقى في مدينة لاكورونيا، شمال إسبانيا، لإحياء ذكرى المصور والمخرج الألماني بيتر لندبرج الذي توفي قبل سنتين، وحضر الملتقى 100 شخصية من الفنانين والمصممين والمصورين وعارضات الأزياء من بينهم نعومي كامبل وكيت موس وليندا إيفانجلستا وكلير ويت كيلر وإيمانويل ألت.
إن نوعية الحضور تدل على أن «زارا» لم تعد علامة تجارية هامشية لمحدودي الدخل، يتجاهلها الكبار.
توهج نجم السعد في فلك مارتا وتقرر مصيرها منذ أن كانت تبلغ من العمر 23 عاماً. فقد أرسلها والدها، يومذاك، في مهمة سرية إلى لندن لكي تشتغل بائعة في متجره في العاصمة البريطانية. وكان متجر «زارا» يقع على مبعدة خطوات من المدرسة الأوروبية لإدارة الأعمال التي كانت قد درست فيها. والحقيقة أنها لم تحقق نجاحات تذكر في دراستها لكنها اجتهدت لتتعلم. وفيما بعد صرحت لصحيفة «وال ستريت جورنال» أنها في الأسبوع الأول من عملها كبائعة لم تتصور أنها قادرة على مواصلة العيش هناك، لكنها اعتادت على أجواء المتجر وأدمنت العمل فيه. وجدير بالذكر أن أياً من العاملين لم يكن يعرف أنها ابنة رب العمل. لكن كان هناك من تساءل بشأن ساعة «الرولكس» التي كانت في معصمها. هل هي حقيقية أم مزيفة؟
وريثة بلا منصب
لم يكن التكتم على هوية البائعة الشابة غريباً على أسلوب عمل الأب. إن الأسرار هي سمة نشاط العائلة. لكن السر لابد وأن ينكشف، فقد تحولت مارتا بعد سنوات قلائل إلى وجه إعلامي وشخصية ساعية لتلميع صورة عائلتها التي ترفض الشهرة والأضواء.
لقد كان والداها يفضلان البقاء في الظل ويتجنبان فضول المتطفلين ويعيشان حياة عادية في الحي القديم الذي يسكنانه في مدينة لاكورونيا. وفي الصيف الماضي خرقت البنت، للمرة الأولى، إحدى قواعد السرية التي وضعها الأب، وهي الامتناع عن الحديث للصحافة. فقد قطعت حبل الصمت ووافقت على مقابلة لصحيفة «وال ستريت جورنال» حيث قدمتها الصحيفة باعتبارها «السلاح السري لزارا»، وخصص لها الملحق الاقتصادي للصحيفة الأمريكية صفحته الأولى، مع صورة التقطها لها مصور الموضة المعروف ستيفن ميسل.
لكن المقابلة التي جرت في مقر الشركة لم تتطرق للاتهامات التي توجه للشركة بأنها تستخدم الأطفال في مصانعها في الصين. لقد كان واضحاً أن الهدف من المقابلة هو تقديم ابنة أمانسيو أورتيجا رسمياً باعتبارها وريثته في شركة الأزياء رغم أنها لم تكن تشغل أي منصب رسمي فيها، بل كان لها منصب في الشركة العقارية التابعة للمجموعة. أما دور أختها وأخيها فلم تتطرق له في حديثها، وهما ابنا الزوجة الأولى روزاليا ميرا التي توفيت بجلطة دماغية عام 2013 بينما كانت تمضي إجازة في منتجع مايوركا.
لا تتوفر معلومات كثيرة عن طبيعة العلاقة بين مارتا وبين اختها ساندرا التي تكبرها بـ 15 عاماً، ولا عن علاقتها بأخيها ماركوس الذي يعاني من شلل دماغي. لكن يكفي مراقبة الوقائع لنفهم أن هناك هوة بين الطرفين. فأن يحمل المولود لقب أورتيجا لا يعني مساواته مع من يحمل اللقب نفسه.
فقد درست ساندرا في المدارس الحكومية بينما أرسل الأب مارتا إلى مدارس أجنبية خاصة في إسبانيا ثم إلى معهد راق في سويسرا لتكمل دراستها الثانوية. إن ساندرا هي اليوم صاحبة ثاني أكبر ثروة في البلاد لكن وسائل الإعلام لا تنشر صورها بينما تظهر صور مارتا بشكل منتظم في الصفحات الاجتماعية. ونظراً لحبها لركوب الخيل فإنها تشارك في مسابقات في الفروسية لمحترفي قفز الحواجز.
كما شوهدت تجلس في الصف الأول خلال عرض أزياء «فالنتينو» الذي تجمعها صداقة وطيدة مع مصممه بييرباولو بيكيولي. ونشرت الصحف صوراً لها وهي في حفل بحضور ملكة إسبانيا ليتيسيا.
بهذا تكون مارتا قد تحررت من الكتمان المفروض من الأب، بل تمكنت من إقناعه برفع السرية عن زيجتيها، إذ اقترنت عام 2012 بالجوكي سيرجيو ألفاريز ورزقت منه بطفل قبل انفصالهما بهدوء في عام 2015. ثم تزوجت عارض الأزياء كارلوس توريتا عام 2018 في حفل أنفق عليه الأب بسخاء وأحياه مغنون من أمثال كريس مارتن ونورا جونز وجيمي كالوم.
والدلائل تشير إلى أن مارتا وجدت ضالتها في زواجها الثاني، وهي قد رزقت منه بطفل ثان وصار له مكانه في الشركة كمسؤول عن العلاقات العامة، إنه شريكها الذي يظهر معها في كل الصور ولا يبتعد عنها وهو يسعى لأن يكون ذراعها اليمنى وسنداً حقيقياً للوريثة التي تضطلع بمهمة عسيرة ومعقدة وتنتظرها تحديات كثيرة.
هل يثق المساهمون بها مثلما وثقوا بأبيها؟
بعد الإعلان عن تعيينها تراجع سهم الشركة بشكل كبير، وهذا أمر مفهوم ومؤقت على الأرجح. والكرة الآن في ملعب مارتا إذ يتعين عليها تطمين المساهمين وإثبات قدرتها على المضي بالشركة نحو آفاق أبعد. وطبعاً فإن هناك في سوق الأزياء علامات تجارية منافسة كثيرة، وهناك الاتهامات بتشغيل العمال من طائفة «الإيغور» بظروف مجحفة في الصين، ومن المؤكد أن الوريثة ستنام من الآن فصاعداً مثل الثعلب، بنصف عين... فالمليارات ليست دليل النوم على حرير.