لا تكاد تخلو يد عراقي أو جيبه من وجود مسبحة سواء كانت غالية الثمن أو سعرها عادياً وبسيطاً، لأن العراقيين تربطهم علاقة وثيقة جداً مع المسبحة، وهذه العلاقة متوارثة من الآباء والأجداد، لذلك نراها تنتشر في كل المجالس، ونجد بعض الشباب وهم في عمر الورد يحملون بأيديهم سبحة فاخرة ويتباهون فيها في كل مكان.
يوجد في العراق أسواق ومحال متخصصة في بيع «السبح»، باللهجة العراقية، بمختلف أنواعها، ومن أهم الأسواق المعروفة في هذا المجال، سوق هرج في منطقة ساحة الميدان، فهذا السوق تحيط به المقاهي التراثية البارزة، وأغلب رواد تلك المقاهي هم من هواة جمع «السبح» أو حملها. كذلك هناك محال في منطقتي الكاظمية والكرادة وأخرى في منطقة الشورجة في العاصمة بغداد، كما يوجد أسواق مماثلة في عدد من محافظات العراق.
بورصة عالم «السبح» باتت خاضعة لتقلبات الحياة؛ إذ تأثرت كثيراً بعد انتشار وباء «كورونا»، وأيضاً تضررت بعملية رفع صرف الدولار في العراق، لأن مثل هذه التداعيات أدت إلى حصول فتور في عمليات بيع وشراء «السبح».
لكن على الرغم من ذلك فإن العلاقة الوثيقة جداً بين العراقيين والمسبحة لم تنقطع، وإن شابها بعض الفتور، لأن العراقيين يعدون المسبحة من الاكسسوارات الشخصية المهمة لهم؛ إذ على الرغم من توافر الأجهزة النقالة الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، فإنها لم تؤثر في علاقة العراقيين مع المسبحة، لأن المجتمع العراقي يحرص على الالتزام بالتقاليد الاجتماعية، وهذه التقاليد المتمثلة بالمجالس المجتمعية التي أغلب روادها يتباهون بالمسبحة التي يحملونها، والبعض يصر على طلب أو استعارة مسبحة من يد شخص معين أثناء الجلسة أو حتى شرائها، الأمر الذي جعل الأجيال الجديدة تحرص على اقتناء «السبح» وكلاً حسب مقدرته المادية.
وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي يشهدها العراق، فإن أسواق بيع «السبح» لم تزل تشهد توافر أرقى أنواع «السبح» وأثمنها.
فهناك مسبحة ثمنها بسيط لا يتجاوز الدولار الواحد، وأخرى سعرها يكون متوسطاً ما بين الثلاثين دولاراً فصاعداً، بينما توجد مسبحة سعرها مرتفع جداً مثل «الكهرب» الذي يباع بالوزن؛ إذ إن سعر الغرام الواحد منه يتراوح ما بين الخمسة إلى السبعة دولارات، ومسبحة «اليسر» عليها طلب كبير على الرغم من أن أسعارها مرتفعة نوعاً ما، وكذلك مسبحة نوع «سندلوس»، وهي فاخرة وأسعارها مقبولة تتراوح ما بين الأربعين إلى ستين دولاراً.
أما مسبحة «تراب الكهرب» فالطلب عليها كبير، لأن شكلها جميل وسعرها مناسب، ومن ثم تأتي بقية الأنواع مثل «النارجين» و«عظم الجمل» و«الكهرمان» و«حب الرمان» و«الباي زهر» و«الفيروز» وغيرها، ودائماً ما تكون المسبحة المطعمة بالحشرات البارزة مرغوبة من قبل الزبائن، لأن لونها يكون جذاباً للجميع، وهذا النوع يكون سعره حسب المادة التي يصنع منها. أما الزبائن الذين يتبضعون من أسواق بيع «السبح» فهم من مختلف شرائح المجتمع العراقي، فمنهم شخصيات معروفة على مستوى البلد؛ حيث تقوم هذه الأسواق بتوفير جميع الطلبات إلى الزبائن، لأن هناك محال كبيرة وفيها أنواع مختلفة من «السبح»، التي يتم استيرادها من مصر ولبنان وألمانيا وبولونيا.
مسبحة سعرها 850 دولاراً
وظائف متعددة للسبح
بحسب عادات العراقيين، فإن للمسبحة عدة وظائف:
مهنة لا تخلو من الغش
على الرغم من أن عالم «السبح» من العوالم الجمالية والكمالية، فإن هذه المهنة لا تخلو من الغش والنصب والاحتيال؛ فمثلاً يأتي شخص بـمسبحة يقول إنها «كهرب»، التي سعرها يكون مرتفعاً لأنها تباع بالوزن، لكنها في الحقيقة «مسبحة» عادية شبيهة لها بالضبط.
مع ذلك، بات عدد الأشخاص الذين يقومون بخداع المتبضعين أو الزبائن في أسواق بيع «السبح» قليلاً قياساً بالسنوات السابقة نتيجة وجود كاميرات المراقبة.
تصليح «السبح»
لا يكاد سوق من أسواق بيع «السبح» يخلو من العاملين في مهنة تصليح هذه «السبح»؛ إذ يقوم هؤلاء بمهام تبديل خيوطها أو تعويض بعض حبات الخرز المفقودة منها مقابل ثمن يتفق عليه أو تبديل «الكركوشة»، وتعني رأس خيط المسبحة.
وتوجد أنواع مختلفة من «الكركوشة»، فهناك نوع ذهب خالص ونوع آخر من الفضة، وهذان النوعان يتم بيعهما حسب الوزن بالمثقال، كذلك توجد «كركوشة» من القماش أو من الخيوط وبألوان زاهية.
من جهة أخرى، فإن ما يميز أسواق بيع «السبح» في العراق أنها خاصة بالرجال، على الرغم من أن بعض النساء لديهن رغبة في زيارة هذه الأسواق والتبضع منها، فإنهن يجدن صعوبة بالغة جداً في زيارتها بسبب زحام الرجال فيها، وكذلك عدم وجود ثقافة في البلد تشجع على تواجد النساء في هكذا أسواق، لكن هناك حالات استثنائية بمجيء بعض النساء مع أزواجهن أو أولادهن أو آبائهن.
إذ نرى الكثير من النساء، لاسيما الكبيرات في السن يحملن في أيديهن أو في حقائبهن مسبحة لأغراض دينية، لكن التسبيح بها لا يتم في الأسواق أو في الشوارع؛ بل في المنزل أو في أماكن العبادة أو في السيارة إذا كانت المسافة بعيدة، لأن حمل المسبحة علانية من قبل المرأة في العراق يواجه بنوع من الانتقاد من قبل المجتمع العراقي.