تتبارى القنوات التلفزيونية في كل عام خلال شهر رمضان المبارك على تقديم أعمال درامية تحقق فيه أعلى نسب مشاهدة متسببة في ارتفاع أصوات المراقبين المطالبين بمراقبة ومتابعة هذه الأعمال التي تلقي بآثارها السلبية على تماسك الأسرة وترابطها.
وكانت الخطبة التي ألقاها إمام وخطيب مسجد «لافي الهرير» عبد العزيز سعود العويد، في منطقة القيروان في دولة الكويت، ما هي إلا غيض من فيض من رسائل التنبيه التي تشير لدور وسائل الإعلام فيما تتعرض له الأسرة من أزمات وعقبات وكيف يمكن أن تكون وسائل للهدم أو وسائل للبناء وتحقيق رقي المجتمع وبناء الأسرة، واستخدام شهر رمضان كموسم لتسويق الأفلام والمسلسلات الهابطة، التي تتنافى مع ما جاء به الإسلام والعادات والتقاليد، وكيفية تحكم كاتب النص بأفكارنا وآرائنا.
المسلسلات الهابطة ترسخ انطباعات تسيء لمجتمعات بأكملها
وعرض إمام وخطيب مسجد «لافي الهرير» لذلك مثالاً ما جرى في محطات التلفزة الإماراتية عندما عرض مسلسل «أشحفان» الإماراتي، وهو عمل كوميدي محافظ يتناول صفة البخل للشخصية الرئيسية في المسلسل، وكيف أن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أدرك بحكم أبوته وما تميز به من رجاحة عقل وحكمة وفطنة خطورة بث مثل هذه الرسائل حتى وإن كانت بأسلوب فكاهي، فسأل عما سيقدم في خاتمة المسلسل وكيف ستكون النهاية وعندما علم أن شخصية «أشحفان»، التي جسدها الفنان الإماراتي سلطان الشاعر، ستستمر ببخلها طلب من طاقم العمل إضافة حلقة أخرى خلافاً للعرف الإعلامي تظهر فيها «أشحفان» بصورة الرجل الكريم الذي تاب عن بخله، خوفاً من تعزيز صفة البخل في نفوس الناس وإدراكاً منه لمسؤوليته كأب وقائد.
مسلسل «أشحفان»
يلقي العويد اللوم على كاتب النص الذي يتحكم بالأفكار ويتلاعب بالتقاليد، وفريق العمل من مصورين ومخرجين، والمسؤولين في القنوات التي تدعم مثل هذه الأعمال، ويبين دورها في ترسيخ صور وانطباعات تسيء لمجتمعات بأكملها، ويشيد بدور دولة الإمارات في مجال رعاية الإعلام وحرصها على الإسلام وحفظ عادات المجتمع وتقاليده وإبعاده عن الأفكار التي تحارب الأصول الثابتة التي وجد عليها.
الكثير من الأعمال الرمضانية فيها إساءة للمجتمعات العربية وأمنها الفكري نتيجة انحرافها عن هدفها الأصلي في تحريك الرؤى لصناعة أعمال إبداعية وفنية تعالج القضايا المهمة للمجتمع
يشير الكاتب والباحث الدكتور محمد بن جرش، إلى الإنتاج الدرامي بأنه من أهم أشكال الإنتاج الإعلامي التي تنجذب له فئات متنوعة من المجتمع، وبالتالي فإنه يجب أن يحمل رسالة ويسلط الضوء على قضايا اجتماعية وقيم إيجابية أو سلبية بهدف تقويمها، يقول «وسط هذا الزخم الهائل من الإنتاج الذي نشهده وبشكل خاص خلال شهر رمضان المبارك نجد في الكثير من هذه الأعمال إساءة للمجتمعات العربية وأمنها الفكري نتيجة انحرافها عن هدفها الأصلي في تحريك الرؤى لصناعة أعمال إبداعية وفنية تعالج القضايا المهمة للمجتمع كل بحسب منظوره وخبرته الثقافية والفنية في تناول الموضوعات، هذا يتناولها في فيلم وهذا يتناولها في مسلسل وهذا في مسرح وآخر يتناولها في عمل أدبي، ففي النهاية جميع الأعمال ومنها الدرامية هي في الأصل أعمال كتابية يجسدها الفن بمختلف أشكاله».
الكاتب والباحث الدكتور محمد بن جرش
يأسف لما هو مطروح من مواد «كمشاهد أجد أن أغلب ما يعرض من مواد هو في الحقيقة بعيد عن الواقع والحاضر الذي نعيشه فيه الكثير من التشويه والمغالطات للمجتمعات التي ننتمي لها، فكما نعلم بأن الفن مرآة لحياة الشعوب وآمالها وألامها وطقوسها وروحانياتها»، في ظل توفر الفضاء المرئي من خلال الهواتف والأجهزة الذكية زادت خطورة هذه المواد على الأسرة بسبب يسر التعاطي معها، يوضح «الكبير منا يملك الوعي والقدرة على فرز ما هو جيد وما هو غير مقبول لكن الخطورة تكمن مع الأطفال الذين يعيشون عصر العولمة والاطلاع على ثقافات متنوعة والذين لربما يبدأون في بناء صور سلبية عن مجتمعاتهم واقتباس جزء من هذه المواد وينشأون على أمور غير سوية وبالتالي تصبح هذه المواد ضيفاً غير مرغوب به في محيط الأسرة».
يوضح بن جرش «من الأهمية ربط المؤسسات المعنية بالدراسات المجتمعية والمؤسسات الثقافية لإنتاج دراما تحاكي الحاضر من خلال أعمال رصينة تدعو لقيم إنسانية تسلط الضوء على نقاط مهمة في المجتمع بصورة حضارية لائقة وصناعة محتوى إبداعي يرتقي أن نطلق عليه فناً».
الرغبة في تحقيق الربح والشهرة السريعة كانت سبباً لتخلي بعض الفنانين عن مبادئهم الفنية وتقديم أعمال بعيدة عن هويتنا وثقافتنا
يتلمس محمد تتان، الفرق الكبير بين ما طرحته الدراما في السنوات الماضية وما يقدم اليوم «ضعف الدور الرقابي على الأعمال الفنية أبعدت الدراما العربية عن هدفها في تقديم محتوى يناسب وينسجم مع ثقافة المجتمعات، إلى تقديم محتوى تسويقي هدفه الأول والأخير تحقيق أعلى نسبة من المشاهدات والأرباح تنتشر بسرعة كبيرة بين الشباب والمراهقين، وهي في الغالب نماذج فيها تقليد واضح للغرب في سطحية الطرح والدعوة للانحلال ونشر الكثير من المفاهيم المغلوطة التي لا تتناسب مع ثقافة وقيم المجتمعات العربية».
لا يتوقف عند تحميل الكتاب والمخرجين مسؤولية التأثير السلبي لهذه الأعمال «الرغبة في تحقيق الربح والشهرة السريعة كانت سبباً لتخلي بعض الفنانين عن مبادئهم الفنية وتقديم أعمال بعيدة عن هويتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا وقيمنا الجميلة النبيلة»، يطمح تتان أن يشاهد في رمضان أعمالاً درامية مختلفة عما يعرض «أتمنى أن يهتم المعنيون بعرض أعمال مستمدة من صلب الواقع لنماذج إنسانية موجودة في المجتمع وأحداث تتعلق بتفاصيل معيشة يومية، فالفن رسالة سامية تنقل هموم وتطلعات الشعوب».
يكون الإعلام أداة نافعة ووسيلة تربوية فعّالة لمن أحسن استخدامها، وبالمقابل يكون سلاحاً ضارّاً يفتك بالأفكار والمجتمعات، ينبغي للقائمين عليه الحرص على تقديم ما يرضي الله تعالى وينفع المجتمع
يبين الدكتور محمد عيادة الكبيسي، كبير المفتين بإدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، «رمضان شهر الصوم والتقرب إلى الله تعالى والهدف الأساسي من فريضة الصوم الارتقاء إلى درجة التقوى، فيه تفتح جميع أبواب الجنة فلا يغلق منها باب، وتغلق جميع أبواب النار فلا يفتح منها باب، وتصفد الشياطين، وهو فرصة لتهذيب النفوس وتطهير القلوب من أدران المعاصي والذنوب، يقول الله تبارك وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
ويضيف الدكتور الكبيسي «اختص الله تعالى شهر رمضان بليلة القدر، وإنزال القرآن، واختار الصومَ من دون العبادات، فقال تعالى «إلا الصومَ فإنه لي، وأنا أجْزي به، يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي»، كل ذلك ليس لمجرد الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة لساعات معدودات، بل لأن الصوم عبادة قائمة على الإخلاص، يتضح فيها ترك الذنوب والآثام بكل أنواعها، الظاهرة والباطنة والقولية والفعلية، وحتى يكون الصوم صحيحاً يجب أن يكون بالأجساد والجوارح، والقلوب والأرواح، ومن ذلك صون العين والأذن واللسان وسائر الجوارح عن الحرام والآثام من كذب وزور وبهتان وافتراء، وسماع الحرام أو مشاهدته وتضييع الصائمون الوقت بالسهر على المسلسلات والترفيه ومما لا فائدة فيه، وبدون هذه الشمولية لا يكون الصوم صوماً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «من لم يدع قولَ الزّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه».
يشير الكبيسي لدور الإعلام في بناء المجتمعات وهدمها «يكون الإعلام أداة نافعة ووسيلة تربوية فعّالة لمن أحسن استخدامها، وبالمقابل يكون سلاحاً ضارّاً يفتك بالأفكار والمجتمعات، ينبغي للقائمين عليه الحرص على تقديم ما يرضي الله تعالى وينفع المجتمع، لكن مما يؤسف عليه أن كثيراً من المحتوى الإعلامي فيه مناظر خادشة للحياء ومقاطع تدعو إلى الإثم والفجور وتسعى في تزيين الرذيلة وطرح آراء شاذة عبثية تستهزئ بالقيم الإنسانية والعلاقات الاجتماعية السوية وتشوه المجتمع المسلم المحافظ القائم على احترام الدين والالتزام بتعاليمه وأخلاقه، ومن أهمها خلق الحياء الذي هو من أشرف الأخلاق وأسماها، والذي اختاره الله تعالى ليكون شعاراً لدين الإسلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «لكلِّ دينٍ خُلقٌ، وخلقُ الإسلامِ الحياء».
يكمل الكبيسي «مثل هذا المحتوى البذيء الدنيء يسيء إلى المجتمع ويروج لنشر الفساد فيه، فليحذر المشاركون في الترويج للفساد وعرضه ونشره، فإنهم كلهم مشتركون في الإثم ومتعرّضون لغضب الله تعالى، يقول الله تعالى «إن الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، كما أن الاهتمام بمثل هذه المقاطع والمنتجات التي تروج لمثل هذه الشبهات ومتابعتها ومشاهدتها أمر خطير قد يؤدي بالإنسان إلى الكفر والنفاق، وقد حذّرنا الله تعالى فقال «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا».