السياحة السوداء.. جولة «ترفيهية» حول مصائب العالم!
منطقة تشرنوبل
من الطبيعي أن من يشعر بالتعب وربما الملل في حياته أن يتوجه إلى السفر كحل لاستعادة نشاطه وحيويته وراحته النفسية، ولكن ما رأيكم بأناس لا يجدون متعتهم إلا في السفر إلى أماكن الموت والخراب والخطر؟
يزورون مواقع الكوارث والمجازر الأكثر رعباً وشراسة في العالم.. إنها السياحة السوداء، التي شاعت في العالم في السنوات الأخيرة، لذلك لا تستغرب إذا ما اقترح عليك صديق السفر لالتقاط صور في تشيرنوبل!
«السياحة القاتمة» Dark Tourism
تسمى علمياً وأكاديمياً بـ«السياحة القاتمة» وظهر هذا المصطلح في عام 1996 بواسطة جون لينون ومالكوم فولي، الباحثان في جامعة غلاسكو كالدونيان الإسكتلندية، ويتمثل في زيارة وجهات مرتبطة بحوادث وأحداث داماتيكية ومأساوية، موت أو تدمير، بحيث إن بعضهم ينجذب إلى أكثر المواقع دموية في العالم. يقول لينون إن الطبيعة البشرية تعشق المواقع الغامضة، وإن هذا الأمر أكثر وضوحاً مع رغبتنا الشديدة في متابعة الأفلام والمسلسلات التلفزيونية وقراءة الكتب الأكثر سوداوية وغرابة وغموضاً.
كما يشير الباحثان إلى السبب الآخر الأكثر شيوعاً أيضاً أن البعض لديه وله في «التأمل» بمكان الحدث، أي الرغبة في فهم و«عيش» التاريخ والغوص في المكان لاستشعار ما حدث. أما البعض الآخر، وهم كثيرون، فيبحثون عن مغامرات تخرجهم من رتابة حياتهم اليومية فيندفعون نحو تجارب يرونها استثنائية وفريدة تجعل الدماء تسري في عروقهم وتبعث فيهم النشاط والحيوية التي لا يجدونها إلا في الدمار والخراب وشم رائحة الموت.
وبعد أن شاعت في دول العالم، لا سيما الغربي، أنتجت شبكة نتفليكس في عام 2018 سلسلة وثائقية عن هذه السياحة، تصور صحفياً في رحلة لاستكشاف المواقع ذات الصلة بالسياحة السوداء على كوكب الأرض.
مسلسل"Dark Tourist"على نيتفلكس
أما شبكة «اج بي او» فقد أنتجت سلسلة قصيرة جعلت تشرنوبل مصدر اهتمام الكثير من المشاهدين. كما أن مواقع التواصل الاجتماعي كان لها الدور الأبرز في انتشار هذه الظاهرة التي باتت «موضة» في المجتمعات الحديثة يجدها المولعون بها في رحلات وبرامج تقدمها بعض شركات السياحة لزيارة «حقول القتل» في كمبوديا مثلاً أو «غراوند زيرو» في أمريكا.
شركة تسوق رحلات سياحية إلى منطقة تشرنوبل
ومما زاد الطين بلة وأشعل فورة هذه الظاهرة في بداية القرن الحالي، انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتعدد منصات تقاسم الصور والفيديوهات التي حولت محبي السياحة السوداء إلى «أبطال» بعيون الغيورين الباحثين عن وجهات غير اعتيادية بما أنهم يحبون الاختلاف عن الآخرين، ورواية حكايات مشوقة وغريبة تثير إعجاب أصدقائهم عند العودة.
لذلك شاعت صور أشخاص يرتدون أقنعة واقية ويقفون بالقرب من مفاعل تشيرنوبل مثلاً، أو آخرون في نقطة أقرب ما يكون من فوهة بركان يغلي، أو «سياح» فضلوا ترك كل المناطق ذات الطبيعة الخلابة في العالم والتوجه نحو منطقة لا يوجد فيها غير أطلال الحروب والخراب.
سياحة الكوارث
تعتبر الكوارث الطبيعية أو تلك التي تسبب بها الإنسان وجهة مفضلة عند بعض المسافرين الذين لا يترددون عن تحدي المخاطر من أجل اكتشاف أماكن مرتبطة بأحداث حزينة. وهكذا نرى مثلاً أن فوكوشيما في اليابان، التي شهدت زلزالاً ثم تسونامي وبعدها انفجار مفاعلها النووي، تحظى بشهرة بين هؤلاء بحيث إن مدنها المدمرة باتت وجهات سياحية استقبلت في عام 2017 وحده حوالي 100 ألف زائر، وتقترح شركات سياحية اصطحاب السياح بجولة على متن باص مع تزويدهم بأقنعة وأجهزة قياس الإشعاع.
منطقة تشيرنوبل المنكوبة
وفي عام 2018 استقبل مفاعل تشيرنوبل الشهير أكثر من 72 ألف زائر، وزادت الحجوزات للتوجه إليه بنسبة 40% في عام 2019، ويؤكد منظمو هذه الرحلات أنها آمنة ولكنهم ينصحون بعدم التدخين أو الشرب أو الأكل كي لا يستنشقوا جزيئات سامة، وأن يغطوا أكبر جزء ممكن من أجسادهم لمنع أي تماس بين الجلد والغبار الإشعاعي المحتمل. وكانت أوكرانيا، قبل الحرب الحالية طبعاً، تشجع مثل هذه الزيارات بحيث إنها مهدت بعض المسارات وأدخلت تحسينات على شبكة الهاتف المحمول.
سياحة الحروب.. جولات إلى سوريا والعراق وأفغانستان!
بعيداً عن مناطق الرعب في الماضي، ازدهرت في السنوات الأخيرة سياحة زيارة مناطق الحروب والنزاعات وغير الآمنة، وينظر إليها على أنها الأخطر بين أنواع الساحة السوداء، ومع ذلك فإن هواة هذا النوع قد ازدادوا في السنوات الأخيرة. ومن الوجهات المفضلة اليهم سوريا، العراق، أفغانستان.. وغيرها.
سائح يوثق جولته في أفغانستان
ورغم التحذيرات الحكومية بعدم السفر إلى مناطق النزاع أو غير المستقرة، فإن البعض من عشاق هذه «الهواية» الخطرة يلجأون إلى حيل عديدة وأشهرها الادعاء أنهم في مهمة إنسانية ثم التوجه إلى وكالة سياحية متخصصة بسياحة الحروب مثل «ديساستر توريزم» في بريطانيا أو «وور زون تورز» في أمريكا، والمثير أن هذه الوكالات السياحية، وقبل إرسال السياح إلى هذه المناطق، تدربهم على طرق الإنقاذ مثل كيفية الاتصال باللاسلكي وإطلاق النار وإخلاء جريح عند الحاجة، وهذا ما حصل فعلاً في عام 2016 عندما تعرض 6 سياح من هؤلاء إلى جروح نتيجة إطلاق قذيفة عند مرورهم بأحد الطرق في هرات بأفغانستان. كما أن هذا النوع من السياحة معروف في مناطق خطرة في أمريكا اللاتينية، لاسيما في أحياء من ريو دي جانيرو تشهد عادة حروب عصابات، ومن أشهر وكالات السياحة المتخصصة بها «فافيلا تور».
مجمع فوكوشيما
سياحة العصابات
لطالما شدت قصص العصابات وزعمائها الكثيرين، خاصة بفضل الأفلام والمسلسلات التي تستعرض قصص حياتهم وأعمالهم وجرائمهم. ومن أشهر هذه الأعمال السلسلة التي بثتها شبكة نتفليكس عن عصابات المخدرات وروت فيها قصة الأشهر في العالم، بابلو اسكوبار، وكيف بنى امبراطوريته حتى نهايته.
لذلك استغلت شركات سياحية هذا الأمر وأطلقت برنامج «بابلو اسكوبار تورز» وتشمل الأماكن التي عاش فيها وتلك التي كان لها الدور في حياته والزنزانة التي سجن فيها، بل حتى لقاء «بوبي» الساعد الأيمن لاسكوبار الذي أصبح مشهوراً وله فيديوهات على «يوتيوب» يتحدث فيها عن ذكرياته.
برنامج «بابلو اسكوبار تورز» Pablo Escobar Tour
وفي أمريكا هناك جولات سياحية في شيكاغو لزيارة أحد أباطرة الجريمة في القرن العشرين وهو «ال كابون» رغم هدم الكثير من الأماكن المرتبطة باسمه، ولكن بإمكان الزوار زيارة الأماكن التي كان يرتادها والمقاهي التي يجلس فيها بل حتى طلب الجلوس على المقعد رقم 1 الذي يقال إنه دأب على الجلوس عليه.
سياحة الرعب والأحداث الخارقة
سفاحون، مجانين، مشعوذون، أشباح.. ومثيلاتها من كل شيء يثير الرعب أصبح يثير أيضاً شهية رواد السياحة السوداء لزيارتها، الذين أثارهم أكثر الكم الهائل من الأفلام والمسلسلات التي تحدثت عنها، والخرافات والحكايات التي حيكت عنها.
ومن أشهر ما يرد ذكره هنا هو «جاك السفاح» الذي ظهر في لندن بنهاية القرن التاسع عشر خاصة في حي «وايتشابل». فقد راحت شركات سياحية عدة تنظم جولات مع مرشدين تدل السياح إلى مسار هذا السفاح، وأصبح الحي بأكمله وجهة سياحية بفضل الدماء التي أريقت عليه، وليس أكثر من ذلك.
وينطبق الأمر نفسه على مدينة وسمت بالمأساة وهي «سالم» في ولاية ماساشوستس الأمريكية، التي أضحت اليوم وجهة مفضلة أيضاً في قائمة السياحة السوداء. فقد عرفت هذه المدينة عالمياً بسبب مطاردة السحر فيها وأدت إلى الحكم بالموت على 25 ساحراً، بحيث تضج المدينة اليوم بالعديد من المتاجر التي تبيع أشياء غامضة وأعشاباً وكذلك كابينات السياحة، وحتى منزل القاضي الذي حكم عليهم بالإعدام لا يزال على حاله دون تغيير كي يشبع نهم الكثير من الفضوليين. كما تنظم ليلاً جولات سياحية تسمى «جولات الأشباح» تروي قصص السحرة وأشباحهم التي يدعون أنها لا تزال تهيم على وجهها في الشوارع.
ومع ذكر الأشباح، تعتبر إسكتلندا وقلاعها الكثيرة أكثر ما يجذب عدداً كبيراً من السياح الباحثين عن الارتعاش من الخوف، وينظر إلى العاصمة أدنبرة على أنها أكثر مدينة مسكونة بالأشباح في المملكة المتحدة.
منطقة «سالم» في ولاية ماساشوستس الأمريكية
سياحة المقابر
كفى بالإنسان عظة وعبرة أن يزور مقبرة، ولكن عند عشاق السياحة السوداء فإن الأمر لا يتعلق بهذه المعاني بل بغايات أخرى. على سبيل المثال، واحدة من أكثر المقابر زيارة عند هؤلاء هي مقبرة الأب لاشيس في باريس، حيث يزورها سنوياً أكثر من 3 ملايين سائح، والسبب وجود مقابر عدد من المشاهير مثل المغنية اديث بياف والمغني جيم موريسون والشاعر الفريد دو موسيه والمؤلف المسرحي والشاعر والروائي الإنجليزي أوسكار وايلد.. وآخرين.
مقبرة الأب لاشيس في باريس
وهناك مقبرة أخرى مشابهة تقريباً موجودة في لندن، هايغيت، حيث مظاهر البذخ ظاهرة على قبور المشاهير.
أما غواتيمالا فقد قررت أن تذهب بالأمر بعيداً وترفع مستويات القشعريرة والخوف عند الراغبين وذلك بتنظيم جولات مسائية في مقابر كويزاتينانجو مع مرشد يروي تاريخ وأساطير هذا الموقع.
وفي وسط العاصمة الفرنسية أيضاً، هناك زيارة مرعبة مثل هذه لاكتشاف سراديب المدينة والغوص عميقاً في تاريخ باريس، وهي زيارة تجذب سنوياً أكثر من 250 ألف سائح. يمتد المكان على مساحة 11 ألف متر مربع ويحتوي على ما لا يقل عن 6 ملايين قبو من مختلف مقابر المدينة.