قبل أيام قلائل كانت تقوم بتنظيف الغرف في أحد فروع سلسلة فنادق «إيبيس» في الضواحي، ومنذ الثاني والعشرين من الشهر الماضي لم تعد راشيل كيكي شغالة تكسب عيشها وعيش أطفالها بالكفاف، بل نائبة لها وزنها في الجمعية الوطنية الفرنسية، أي البرلمان. أي طموح وأي عناد يقفان وراء مسيرة نجاح هذه المهاجرة الإفريقية؟
قادت راشيل كيكي حملة انتخابية ناجحة
بقدر ما فرحت فئات واسعة من الشعب الفرنسي بفوز المرشحة السوداء راشيل كيكي في الانتخابات التشريعية، بقدر ما كانت هناك أصوات عنصرية لم يعجبها هذا النجاح. إنهم يتهكمون عليها، ويسألون عن مؤهلاتها وماذا تفهم في السياسة، وهل سيمكنها التقدم بمشاريع قانون لعرضها على زملائها النواب، ولولا بقية من حياء لطلب هؤلاء إجراء امتحان في القراءة والكتابة للنائبة الجديدة.
قال آخرون إنها كانت تتقاضى عن عملها في الفندق ألف يورو و«شوية زيادة»، فكيف ستنفق الستة آلاف يورو التي هي المرتب الشهري للنائب في البرلمان؟ لقد ترك المتقولون ملاحقة 567 نائباً وتفرغوا للنيل من راشيل.
فهل تنصاع لهم لمجرد أنها فقيرة، أم تواجههم بسلاح طموحها وبالجرأة التي جعلتها تقود إضراباً عمالياً كبيراً قبل سنتين؟.
راشيل كيكي توزع منشوراتها في الشارع
تبلغ مدام راشيل كيكي رئيسة، وهذا هو اسمها الكامل في شهادة ميلادها، من العمر 48 عاماً. ولدت في مدينة أبوبو في ساحل العاج، وهاجرت إلى فرنسا طلباً للرزق، وحصلت على جنسيتها عام 2015. إن وظيفتها هي عاملة تنظيف غرف في فندق. ولما سئلت عن علاقة هذه المهنة بالعمل الوطني العام أجابت بكل بساطة «الفنادق تعني السياحة. والسياحة عصب الاقتصاد الفرنسي. وبدون موارد اقتصادية لا يمكن للدولة أن ترفع من مستوى معيشة المواطنين».
تصف نفسها بأنها «محاربة»
إن شاغلها الأول هو تحسين معيشة الطبقات الدنيا من المجتمع، ومعظم أبناء هذه الفئة هم من المهاجرين، سواء من إفريقيا أو آسيا. يأتون بالآلاف إلى هذا البلد، منذ عقود بعيدة، لكي يبيعوا قوة عضلاتهم لمجتمعات تعتمد عليهم في أعمال البناء والخدمات، وهي تصف نفسها بأنها «محاربة»، وتنوي أن تحدث ضجيجاً تحت قبة البرلمان، أي في ذلك المبنى التاريخي الواقع على ضفة نهر «السين»، مقابل المسلة المصرية، والمسمى قصر بوربون.
اهتمت بالبسطاء
اعتمدت المرشحة الإفريقية الأصل على مجموعة من أنصارها في الترويج لنفسها وكسب أصوات الناخبين. لم تتحرج من الدوران على البيوت في دائرتها الانتخابية وطرق الأبواب وتبادل الحديث مع الناس وحضور كافة المهرجانات الربيعية والتواجد في الأسواق الشعبية. كما أنها لا تطيق السياسيين الذين يتحدثون في أمور بعيدة عن هموم البسطاء بحيث إنهم ساهموا في نفور العامة من السياسة وتراجع نسبة المصوتين في الانتخابات.
راشيل كيكي - انستقرام
تشعر المرشحة بأنها اقتربت من السياسة بحذر، وكان من دواعي سعادتها أن تيار اليسار تبناها واقتنع بها. أما ما تنوي تحقيقه في حال دخولها الجمعية العمومية فهو إعادة النظر في الأجور وفرض زي جديد للعمال من القطن الخالص ووقف التسريح التعسفي من العمل. في الأيام الماضية حرصت راشيل على الظهور بمظهر معتنى به في التجمعات العامة، مرتدية زيها الإفريقي، وكان من الواضح أنها تستعين بخبير في العلاقات العامة مثل غيرها من المرشحين.
راشيل كيكي مرتدية زيها الإفريقي
حين أعلنت عاملات التنظيف في سلسلة فنادق «إيبيس» إضرابهن الشهير عن العمل للمطالبة بتحسين أوضاعهن، كانت راشيل هي الناطقة باسم العاملات المضربات.
دام الإضراب 22 أسبوعاً وانتهى بتحقيق مطالب العاملات. وقد شجعتها تلك التجربة على المضي في حلمها والتقدم للانتخابات النيابية لكي تكون «حاملة صوت الطبقات اللامرئية» في المجتمع. وبالطبع، فإن من يعرف كيف تجري الأمور في ميادين السياسة يدرك أن راشيل ما كانت قادرة على بلوغ شبرين أبعد من موطئ قدميها بدون أن تتبنى جهة قوية لها، إذ هناك حركات سياسية تبحث عن وجوه مختلفة تمثل التعايش الفرنسي.
وقد تلقف تحالف اليسار راشيل كيكي وطلب منها الانضمام إلى واحدة من قوائم الأحزاب اليسارية التي يتألف منها التحالف. وهي لم تكذب خبراً، انضمت إلى الحزب وتركت نفسها تخوض معركة حياتها. وقد جاء ترشيحها في منطقة يمينية صعبة عليها، هي الدائرة السابعة من منطقة «فال دو مارن»، لكنها قامت بما هو مطلوب منها وتمكنت من جمع أصوات الناخبين وتنافست مع وزيرة فرنسية سابقة واستطاعت الانتصار عليها.
قائدة جماهيرية
قال عنها زميلها النائب إريك كوكريل «هذا ما يمكنني أن أسميه قائدة جماهيرية. فهي قوية، تعرف اختيار الكلمات المناسبة، وليست محتاجة لأن تقرأ خطاباتها من ورقة». وعموماً فإن رفاقها في حزبها لا يتوقفون عن كيل المدائح لها، فهي قد لا تملك خبرة في السياسة لكنها تملك خبرة في نقابات العمال. وفي تصريح لها لوكالة الصحافة الفرنسية قالت إن عمل الشغالة يحطم الجسد ويتسبب في عطب العمود الفقري وتصلب الكفين، وعاملة التنظيف تعود إلى بيتها وهي تشعر وكأن هناك من أشبعها ضرباً طيلة النهار.
كان ذلك هو ما شعرت به بعد أول يوم لها في العمل، عام 2003.
لكنها لم تتوقف وعاهدت نفسها على استجماع شجاعتها ومواصلة العمل من أجل أطفالها، قبل أن يكون من أجل نفسها.
حياتها لم تكن سهلة
النائبة الجديدة هي أم لخمسة أبناء. كانت والدتها تبيع الملابس ووالدها سائق حافلة. ماتت أمها وهي طفلة في الثانية عشرة من العمر وتولت هي مسؤولية أشقائها وشقيقاتها. وصلت إلى فرنسا في عام 2000 وباشرت العمل في صالون للحلاقة النسائية قبل أن تدخل عالم تنظيف غرف الفنادق. لم تكن حياتها سهلة بل مضطربة، اضطرت للتنقل من شقتها عدة مرات وكثيراً ما سكنت في بيوت معارف لها أو في غرف مهجورة لا تصلح للآدميين، إلى أن حصلت على شقة تابعة لبرنامج «الحق في المأوى». ورغم شقائها فإنها عشقت فرنسا، وكان جدها قد حارب في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية. نالت، بعد 15 عاماً من مجيئها الجنسية الفرنسية.
لم أدرس دراسة عليا لكنني أعبر عن أفكاري وما أشعر به
في واحد من تجمعاتها الانتخابية وقفت تخطب أمام 200 شخص جاءوا لمناصرتها، «لسنا عصاة. كل ما نريده هو كرامتنا». ولا تتورع راشيل كيكي عن الاعتراف بأنها نسوية وتؤمن بالعدالة بين الجنسين، بل بالعدالة بين مكونات المجتمع ككل. لهذا ناصرت حركة «السترات الصفر» التي تطالب بشروط حياة أفضل لذوي الدخل المحدود والمتقاعدين والعجزة. وللرد على من يسخرون من لكنتها الإفريقية قالت «إذا تكلمت معي بفرنسية خريجي معهد العلوم السياسية فإنني سأرد عليك بلغة سكان الضواحي»، وأضافت «أنتم تعرفون مستوى تعليم الشغالات. لم أدرس دراسة عليا لكنني أعبر عن أفكاري وما أشعر به. وإذا لم أفهم السؤال فلن أخوض في جواب. وعلى الصحفيين أن يعتادوا مني ذلك».
كتب هؤلاء أن رفاق راشيل يريدون أن يصنعوا منها أيقونة، وكان الرد: نحن لا نحتاج أيقونات في الحياة السياسية بل نحتاج لمن يعبر عن نفسه بشكل طبيعي وبدون مراوغة. إنها اليوم رمز من رموز العمل السياسي والنقابي ولو رغماً عنها، فقد فازت بنسبة زادت على 50 في المئة من الأصوات، وكان أول تصريح لها بعد الفوز «أعتقد أن فوزي سيمنح الثقة للعاملات الأخريات، أقصد الشغالات في المنازل، ويجب ألا يستهن بأنفسهن».
ولابد من التنويه بأن مسيرة راشيل كيكي تعيد إلى الأذهان حكاية عاملة الغرف الإفريقية نفيساتوديالو التي تعرضت قبل سنوات لاعتداء جنسي في فندق في نيويورك، من دومنيك شتروس كان، الفرنسي الذي كان رئيساً لصندوق النقد الدولي، الحادثة التي قادته إلى السجن وحرمته من فرصة شبه أكيدة في رئاسة فرنسا.