يقولون إن وسائل التواصل الاجتماعي آفة من آفات العصر. وقد يكون هذا الرأي صحيحاً، لكنها أيضاً ميدان لتصحيح مفاهيم كثيرة وللوقوف في وجه تيارات قاتمة تحاول تشويه حياتنا، وزعزعة طمأنينتنا، وصبغ الجمال بريشة القبح.
ما الحكاية؟ الحكاية وما فيها أن نجم كرة القدم العراقي، الكابتن نور صبري، نشر في «إنستجرام» صورة تجمعه مع ابنته للتعبير عن فرحته بدخولها كلية الطب. وحال نشر الصورة قامت قيامة طيور الظلام، وانهالت عليه الشتائم المقذعة عبر عشرات التعليقات المسيئة. والسبب أن البنت غير محجبة.
الكابتن نور يقترب من الأربعين، وقد اعتزل اللعب، لكنه كان من أشهر حراس المرمى الذين خاضوا بطولات جميلة، وحققوا نتائج طيبة. إنه اللاعب الذي أسعد ملايين العراقيين، وهتفت باسمه حناجر المشجعين في المدرجات. كيف تتحول المحبة إلى كراهية؟
لنحاول قراءة الصورة أولاً. إنها لوالد يقف متباهياً إلى جانب ابنته الصبية التي ترتدي زياً محتشماً، ويخلو وجهها البريء من التزويق. هل بات الحنان الأبوي جريمة؟ وهل تغطي كل البنات العراقيات رؤوسهن في الجامعات؟
لكن ما حدث بعد ذلك كان أروع مما يمكن أن نتصوره. لقد وقف مع اللاعب عشرات الآباء والبنات، ثم ارتفع الرقم إلى المئات، ثم إلى الآلاف، وعشرات الآلاف، وامتلأت مواقع التواصل برسائل التضامن مع نور صبري وكانت كلمة السر: «خذ صورة مع ابنتك وانشرها.. خذي صورة مع أبيك». وطوال أيام الأسبوع الماضي كانت صور الآباء مع بناتهن تغزو المواقع بشكل لم يسبق له مثيل.
أتأمل الصور وتدمع عيناي من التأثر والسرور. إنها لرجال فخورين مرفوعي الرؤوس ولبنات سعيدات، محجبات وغير محجبات، يقفن في فيء قامة الأب ويبتسمن للكاميرا. تمنيت لو أن والدي في هذه الدنيا لكي أتصور معه وأنشر الصورة في «فيسبوك».
للأسف، انحنى الكابتن نور أمام العاصفة الصفراء وسحب الصورة وأغلق التعليقات، لكن المئات أعادوا نشرها في حساباتهم، كما تناقلتها المواقع الإخبارية المحلية، وصارت الحادثة حديث المجتمع العراقي. مجتمع حي عريق متعلم سليل حضارات عريقة يرفض أن يحتضر ويموت. هناك من حاول خنقه وما زال يحاول لكن هيهات.
وحادثة نور صبري ليست فريدة من نوعها. فقد تعرض نجم كرة القدم المصري محمد صلاح لهجمات مماثلة؛ لأنه نشر صورة له مع عائلته في بيتهم، إلى جانب الشجرة التقليدية لعيد الميلاد في بريطانيا. هناك نفوس يقلقها الفرح، وتقرصها البهجة، وتخاف من بشائر الحياة، وتروج للموت قبل أن تحين ساعته، وهؤلاء هم القبضة التي تسحب الأمم إلى الخلف بدل الاندفاع نحو النور.