28 مارس 2023

"بيت شباب" في لبنان.. غرناطة الشرق و"الرمانة المفتوحة" الحمراء

فريق كل الأسرة

عاش لامارتين الكاتب والشاعر الفرنسي، ردحاً من الزمن خلال القرن التاسع عشر في لبنان وما زال «قصره» قائماً إلى الحين في بلدة حمانا في أعالي منطقة المتن على مرتفع يعلو وادياً يمتد إلى مشارف الساحل اللبناني، وصار يعرف من يومها بوادي لامارتين.

يُروى أن هذا الشاعر صاحب قصيدة «البحيرة» الشهيرة، والذي شغل في زمنه وزير خارجية الثورة الفرنسية قبل أن يتفرغ للأدب والفن، تجول في أحد الأيام في أرجاء تلك المنطقة ليستوقفه مكان مرتفع أطلّ من أعاليه على بلدة شطَرها وادٍ إلى نصفين يكسوهما القرميد الأحمر، فبادره خاطر سريالي مما شاهده، فشبّه تلك البلدة بالرمانة المفتوحة التي قسمت إلى جزأين ملأتهما الحبات الحمراء.

«الرمانة المفتوحة» كما شبّهها لامارتين، هي نفسها بلدة بيت شباب المتنية التي وصفها الأديب الراحل ادمون بليبل، بـ«غرناطة الشرق» لغلبة القرميد الأحمر على أسطح منازلها التي بُنيت على غرار ما طبع القرى اللبنانية تباعاً، بعد استقدام نموذج بنائها من توسكانا في إيطاليا، إثر زيارة الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير لها في أوائل القرن السابع عشر.

«بيت شباب» أو بيت الجيران باللغة السريانية، ذات الطبيعة الخلابة، من أكبر بلدات قضاء المتن، وترتفع عن سطح البحر بما بين 650 و850 متراً، وتبعد عن بيروت نحو 23 كيلومتراً، وتكثر فيها ومن حولها أحراج الصنوبر والعفص والسنديان، وبساتين التفاح والإجاص والدرّاق، خصوصاً من نوع البكوك الشهير، إلى جانب الكرمة والخضار، وفيها عدد كبير من الينابيع جف أكثرها في العقود الأخيرة.

وبينما تطغى عليها غابات الصنوبر وتزنّرها من جهاتها الأربع، فإن فيها أقدم صنوبرة في لبنان معمّرة منذ أكثر من 300 سنة.

وتبدو بيت شباب أشبه بمنحدر جبلي أخضر يرتدي الزي الأحمر وتتناثر في أرجائه المعالم العمرانية التاريخية، وليس بعيداً يرتفع فوقه جبل صنين المكلل بالبياض الناصع، ويفصلها عن منطقة كسروان وادٍ سحيق يضم مجرى نهر الكلب، حتى مصبه عند الساحل اللبناني.

وحسب الباحث كمال نخلة، فالحياة قديمة جداً في بيت شباب، ومن أبرز الدلائل أن الآثار التي ظهرت فيها، وزالت في الوقت الحاضر، تعود إلى أزمنة غابرة، وتأتي في طليعتها: قلعة رومانية هدمها المماليك عام 1305، وبعض الآثار الرومانية في تلة بحردق في الشاوية، وقلعة صليبية في القنيطرة، والشاوية والقنيطرة تقعان في نطاق بيت شباب البلدي.

وحسب ما يؤكده نخلة، فقد أحرقها المماليك عام 1305، وبقيت مهجورة نحو عقدين ونصف العقد من الزمن ثم أعاد أهلها بناءها. وفي نحو عام 1840 أحرقها الأمير بشير الشهابي الثاني مع الوالي المصري إبراهيم باشا، بعدما أسهم أهلها في عامية انطلياس.

ويذكر نخلة أن أهلها كانوا قدموا المؤن والمساعدة لنابوليون بونابارت أثناء حصاره لعكا. كما أحرقها أيضاً المتصرف داوود باشا عام 1865، بعدما واجه يوسف بك كرم، الجيش العثماني وقيامه بزيارة البلدة.

تعد بلدية بيت شباب من أقدم المجالس البلدية في لبنان، وقد أنشئت عام 1887 ومبناها أثري، وكانت البلدة في مرحلة زمنية طويلة في التاريخ الحديث عاصمة القاطع، الذي يمتد من تخوم كسروان نزولاً إلى انطلياس على الساحل، ومركزاً أساسياً للحركة الثقافية والزراعية والصناعية والتجارية.

كما تعد بيت شباب نموذجاً حقيقياً لفن العمارة اللبنانية التقليدية القائمة على القرميد والمندلون والأسطح من التراب والحوارة، مع القناطر وبناء الحجر المتين. وتنتشر في هذه البلدة المنازل القديمة إلى جانب بيوت وأبنية حديثة البناء. ويعد حي العربة الصورة الحقيقية لبيت شباب العابقة بالتاريخ، بمنازله القديمة التي هجر أهلها جزءاً منها. ويقع منزل سفر برلك ودرجه في هذا الحي، وهما من التاريخ الحديث لبيت شباب، وفيهما صور بعض مشاهد مسرحية «سفر برلك»؛ إحدى روائع الأخوين رحباني مع أغنية فيروز «علموني».

وتبرز السرايا اللمعية (نسبة إلى آل اللمع) معلماً عمرانياً تراثياً في بيت شباب. ومن هذه البلدة خرج كثير من الأدباء والشعراء والمفكرين أبرزهم: يوسف حبشي الأشقر، وجميل جبر، وخليل نخلة، ورياض فاخوري، ويوسف غصوب. ويلفت نخلة إلى أن نحو 23 مطبوعة كانت تصدر من بيت شباب، إلى جانب عدد كبير من المطابع، ومن مشاهير بيت شباب اليوم، فلكي التنبؤات ميشال حايك.

ولكل عائلة في بيت شباب حكايتها خصوصاً مع مهنة أو صناعة أو حرفة دخلت تاريخ البلدة والتراث اللبناني.. من الحرير إلى الفخار إلى قماش الديما وإلى الأجراس. وفي هذا الإطار يلفت نخلة إلى أن صناعة الحرير طبعت حياة أهل بيت شباب منذ القرن الثامن عشر، حيث أصبح هناك أكثر من 20 معملاً أو كرخانة بعد عام 1900، وكان الإنتاج يباع في الداخل اللبناني أو يصدّر إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، إلا أن هذه الصناعة التراثية اندثرت ولم يبق منها اليوم إلا منزل قديم مهمل يشهد في حناياه على بقايا كرخانة كانت الأيام تحكي عن عزّها وأمجادها.

وكانت بيت شباب رائدة في صناعة الفخار وتصدير منتجاته إلى الداخل والخارج، على حد سواء. ويلفت نخلة إلى أن التراب الدلغاني المتوافر في أرض بيت شباب مؤاتٍ جداً لهذه الحرفة التي اختصت بها عائلة الفاخوري طوال عقود. وتميز إنتاج هذه البلدة أيضاً بالخوابي التي لا يرشح منها الزيت أو سائر أنواع المونة، إلا أن آخر فاخوري (فوزي فاخوري) في بيت شباب رحل، وتوقفت مع رحيله هذه الحرفة، بعدما كان هناك نحو 20 فرناً أو «بردوشة» شهدتها أيام العز في الزمن الغابر.

وفي المقابل نجت صناعة الأجراس من المصير الذي لاقته خوابي الفخار. والمعروف أن بيت شباب تصنع الأجراس منذ القرن الثامن عشر للداخل اللبناني والخارج. وتنحصر هذه الصناعة في عائلة نفاع التي توارثت سر هذه الحرفة أباً عن جد، والتي يشهد الجميع في لبنان وخارجه بتفوقها على سائر صناعات الأجراس في أنحاء كثيرة من العالم. ويستمر نفاع نفاع في هذه الصناعة وقد عقد العزم على نقل أسرارها إلى ولديه.

ولقماشة الديما تاريخها في بيت شباب، إلا أن معاملها توقفت وقد يكون معمل عائلة التركي المهجور خير مثال على ذلك. وتوضح الناشطة السياحية رنين الأشقر لـ«كل الأسرة»، أنه بمبادرة من أحد أبناء المتمرّسين في هذه الصناعة، سيُنجز معمل ومتحف على الطراز الأمريكي بما يحيي صناعة الديما، ويعيدها إلى الأسواق الداخلية والخارجية، بما يؤمن مشغلاً لتعليم الجيل الصاعد تصنيعها. وتتفنن الأشقر في أعمال حرفية تستوحي بعضها من صناعة الديما، وتستخرج البعض الآخر من الفخار.

وتشتمل الرحلات في بيت شباب على الأبعاد الدينية والتراثية والعمرانية والطبيعية والفكرية والتاريخية، سواء في الكنائس والأديرة أو في المنازل والقصور القديمة، لا سيما في حي العربة ومنزل سفر برلك ودرجه، أو حي الأجراس ومعمل التركي المهجور، وليس أخيراً في حنايا الطبيعة، وصولاً إلى تذوق منقوشة البندورة في فرن نجاة التراثي، إلا أنه بعد رحيل آخر فاخوري افتقدت هذه الرحلات إلى التعرّف إلى البردوشة والخوابي.

إعداد: شانتال فخري