هناك من المعارك ما يخوضها المرء خلال سنوات حياته. وهناك ما يدخلها بعد سنوات طوال من موته.
وما حرب نابليون بونابرت وجيزيل حليمي إلا من هذا النوع الثاني.
كيف تتحارب محامية فرنسية راحلة مع إمبراطور شبع موتاً حتى صارت عظامه مكاحل، كما يقول المثل؟
«كل الأسرة» تابعت المعركة الجارية حالياً على قدم وساق في مقاطعة النورماندي المطلة على بحر المانش.
من المعروف، تاريخياً، أن الإمبراطور الفرنسي الشهير نابليون مني بأكبر هزيمة في حياته في معركة واترلو التي خاضها عام 1815 على الأراضي البلجيكية ضد خصومه الإنجليز. ورغم هزيمته ونفيه إلى جزيرة سانت هيلانة، فإن الفرنسيين ما زالوا يحملون له الكثير من التقدير ويعتبرونه من أبطال الأمة.
وقد انعكس هذا التقدير من خلال إطلاق اسم الإمبراطور على العديد من الشوارع وإقامة تماثيل له في الساحات العامة. إن واحداً من تلك التماثيل يخوض اليوم معركة تجري حالياً على الأراضي الفرنسية وبعد أكثر من 200 عام على رحيل صاحبه.
خرج ولن يعود
بدأت الحكاية مع انتفاضة الأمريكيين السود التي بدأت في الولايات المتحدة قبل سنتين. لقد راجعوا تاريخ البلاد ووجدوا أن هناك الكثير من تماثيل القادة والسياسيين الذين لعبوا أدواراً في استعباد الأفارقة. وعلى الفور بدأت حملة تصفيات لإزالة تلك التماثيل، أعقبتها حملة مماثلة في بريطانيا وغيرها من دول العالم. وما زال الجدل مستمراً. ففي فرنسا، جرى رفع تمثال نابليون الأول من الساحة الرئيسية لمدينة «روان»، إلى الشمال الغربي من باريس، وكانت الرواية الرسمية هي أن المنحوتة تعرضت لآثار الزمن وتحتاج ترميماً قبل إعادتها إلى مكانها.
لكن مقالات وصلت إلى الصحف أكدت أن نابليون خرج ولن يعود. والسبب هو اعتراض مسؤولين في البلدية على ماضيه الاستعماري. بقيت قاعدة التمثال خالية من التمثال الذي واصل وقوفه عليها طوال 155 عاماً.
والحقيقة أن الإمبراطور لم يكن واقفاً بل يمتطي صهوة حصانه. وقد ذهب الحصان معه للترميم ولم يعد حتى لحظة كتابة هذه السطور. فخلال فراغ القاعدة، جرت انتخابات جديدة في بلدية المدينة، وفاز بالعمودية المسيو روسينيول، وهو من أعضاء الحزب الاشتراكي الذي يدافع عن السلام ويفترض أن يقف ضد الحملات العسكرية على الدول الخارجية.
هنا، هبت من أمريكا رياح انتفاضة ثانية تقودها النساء ضد التحرش وضد استئثار الرجال بمراكز النفوذ. وهكذا وجدها العمدة الجديد فرصة لاقتراح تنصيب تمثال جديد على القاعدة الحجرية الفارغة، يكون من نصيب المناضلة النسوية جيزيل حليمي.
فالنساء شبه غائبات عن التكريم في الفضاء الفرنسي العام، وتكاد أسماؤهن تكون قطرة في بحر أسماء الزعماء والقادة والعلماء التي أطلقت على الشوارع والساحات العامة.
ومنذ وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الحكم وهو يحاول أن يعدل الميزان ولو بنسبة ضئيلة. ويقال إن زوجته السيدة بريجيت هي التي تشجعه على رد الاعتبار للفرنسيات اللواتي قدمن خدمات للأمة. وكان من ثمار ذلك التشجيع قرار ماكرون بنقل رفات عدد من السيدات إلى مقبرة العظماء في باريس والواقعة تحت قبة مبنى «البانتيون».
قبل أيام حمي وطيس المعركة حين جرى تصويت بين النخبة المثقفة من أهالي مدينة «روان» وجاءت النتيجة صادمة. إن 68 في المئة من الأهالي يرفضون استبعاد الإمبراطور ويطالبون بعودة تمثاله إلى موقعه القديم، بعد ترميمه بالطبع. إنها نتيجة توجه ما يشبه اللكمة إلى وجه العمدة، وكانت ردة فعل العمدة هي أن عدد من شارك في التصويت لا يتجاوز الأربعة آلاف شخص، وهؤلاء لا يمثلون كافة سكان المدينة.
أما من يقود الحملة لصالح نابليون وضد العمدة الاشتراكي فهو أحد المستشارين المحللين ويدعى جوناس حداد. لقد تحولت القضية إلى معركة سياسية بين اليمين واليسار. سارع العمدة يدافع عن نفسه ونفى الشائعة التي اتهمته بأنه أمر بتدمير التمثال. وقال إنه سيجد لنابليون مكاناً آخر في المدينة، ولكن ليس في ساحتها الرئيسية.
أين هذا المكان الآخر؟
العمدة يقترح نصب التمثال في الرأس البحري لجزيرة «لاكروا». وفي كل الأحوال فإنه هذه الخطوة تشبه النفي لأن قلة من الزوار تصل إلى ذلك الرأس البحري. وللعلم فإن التمثال يزن 7 أطنان، وهو بارتفاع 4 أمتار، مصنوع من البرونز، وليس أي برونز بل نتيجة صهر حديد مدافع الأعداء في معركة «أوسترليتز» التي انتصر فيها الإمبراطور الفرنسي على امبراطوري النمسا وروسيا، عام 1805.
جزيرة «لاكروا»
بالنسبة لنا، نحن العرب، فإن اسم نابليون مرتبط في الذاكرة بحملته على مصر، وهي حملة ما زالت تثير الجدل ما بين مؤيد ومعارض. هل كانت تنويرية أم استعمارية؟ فهناك من يعتبرها خطوة جلبت العلماء الفرنسيين إلى مصر للمساهمة في تحديثها، وهناك من يراها غزوة عسكرية خائبة انتهت بنهب روائع الآثار الفرعونية من مصر.
ومنذ انتفاضة السود في الولايات المتحدة بعد مقتل جورج فلويد، بدأت انتفاضة موازية في العالم وصلت أصداؤها إلى القاهرة. وخاض مثقفون مصريون نقاشات عامة حول إعادة تمثال المهندس الفرنسي فرديناند دو ليسبس إلى رأس قناة السويس. وأصدر اتحاد الكتّاب بياناً جاء فيه أن الجماهير أسقطت التمثال أثناء العدوان الثلاثي، وبهذا فإن إعادته تشكل إهانة لأرواح 120 ألف فلاح مصري قضوا في حفر القناة.
من هي جيزيل حليمي؟
حسناً، العالم كله يعرف من هو نابليون. لكن قلائل خارج فرنسا يعرفون من هي جيزيل حليمي، المحامية والنائبة والسفيرة السابقة التي فارقت الحياة قبل سنتين عن 93 عاماً. إنها فرنسية رأت النور في ضاحية حلق الواد لأسرة من يهود تونس.
انتقلت إلى باريس للدراسة الجامعية وناضلت، منذ خمسينات القرن الماضي، من أجل استقلال الجزائر عن فرنسا. وقد كانت لها مرافعات مجيدة خلال حياتها المهنية، وهي من تلك النخبة المتنورة التي تجرأت واتخذت موقفاً ضد استعمار لبلدان أفريقية واشتهرت بدفاعها عن جميلة بو باشا، المجاهدة في حرب التحرير التي كانت مهددة بالإعدام.
ونجحت المحامية الشابة، يومذاك، في تحويل المحاكمة إلى منبر إعلاميّ لفضح التعذيب في السجون والاغتصابات التي مارسها العساكر الفرنسيون في الجزائر.
جيزيل حليمي مع جميلة بو باشا
كانت جيزيل حليمي طوال أكثر من نصف قرن حاضرة في كل معارك تحرير المرأة، نائبة في البرلمان تكتب المقالات وتترافع في قضايا الحق الخاص والعام وتقود المظاهرات وتشارك في الندوات والمؤتمرات. ولم يمنعها كونها يهودية أن تتصدى للدفاع عن مروان البرغوثي، أحد أشهر المعتقلين الفلسطينيين.
وهي لم تتخل عن جنسيتها التونسية حتى آخر يوم في حياتها، وبهذا يرى الكثيرون والكثيرات أنها تستحق التكريم بوضع تمثال لها بدل تمثال الإمبراطور المخلوع.
نظراً للوضع الصحي بسبب الجائحة، لم تقم فرنسا جنازة وطنية لجيزيل حليمي وتم تأجيلها حتى بداية العام المقبل. وقد نعاها الرئيس ماكرون واصفاً إياها بأنها رمز مهم من رموز الدفاع عن المرأة.
وفي حال انتصرت هذا المحامية على بونابرت فإنها ستكون الخطوة الأولى لسلسلة من «الثورات» النسائية التي تخوضها من وراء حجب الموت فرنسيات ضد زعماء تاريخيين لم تحصد الأمة من ورائهم سوى الدماء.