الدرب الأحمر.. أقدم أحياء القاهرة يبوح بأسرار الحرف العتيقة
تبدو منطقة الدرب الأحمر وسط العاصمة المصرية، أقرب ما تكون إلى متحف مفتوح يروي للزائرين حكايات عتيقة، ويقدم بما يضمه من آثار إسلامية نادرة وحوانيت تخصصت في إنتاج عشرات من المنتجات التراثية الفريدة، فصلاً مجيداً من فصول حضارة تليدة تضرب بجذورها في عمق التاريخ، لأكثر من ألف عام.
تمزج شوارع حي الدرب الأحمر، في إطلالة ساحرة، بين عشرات المباني الأثرية الإسلامية المنتشرة على امتداد الحي الرهيف، في قلب القاهرة الفاطمية، وكثير من الصناعات اليدوية والحرف العريقة، فتنقل الزائر في رحلة عبر التاريخ لتلك العصور المدهشة التي احتل فيها الصناع المصريون موقع الصدارة، بعدما غزت منتجاتهم اليدوية البديعة، مختلف أسواق العالم.
يمتد حي الدرب الأحمر، على مساحة كبيرة وسط القاهرة، تنتهي عند سفح القلعة، ويحده من ناحية الشمال حي الجمالية العريق، ومن ناحية الغرب حي السيدة زينب، وهو يضم أكثر من 16 شياخة، من أشهرها السروجية والغورية والمغربلين وتحت الربع، إلى جانب حارة الروم ودرب سعادة وسوق السلاح، والفحامين والخيامية والسروجية.
محمد هاني - صانع فوانيس
وقد اشتقت تلك المناطق أسماءها، حسبما يذهب كثير من المتخصصين، من الحرف التي ظلت تمارس فيها لقرون من الزمان، ولا تزال آثارها باقية حتى اليوم في عشرات من الورش التي يمارس فيها الأحفاد صنعة الأجداد، بدقة ومهارة فائقتين.
لا يعرف أحد على وجه الدقة سر تسمية تلك المنطقة الساحرة وسط القاهرة الفاطمية بـ«الدرب الأحمر»، وإن كان كثير من الدراسات تذهب إلى أن التسمية ترجع إلى بدايات القرن الثامن عشر، عندما شهدت تلك المنطقة واحدة من أهم الأحداث السياسية الكبرى التي جرت وقائعها في عصر محمد علي باشا، وهي المعروفة باسم «مذبحة القلعة»، التي تخلص من خلالها الباشا من المماليك، الذي كانوا يناوئونه حكم البلاد.
تحفل منطقة الدرب الأحمر بعشرات من الورش الصغيرة التي تنتج العديد من المشغولات اليدوية، ما يجعلها بحق أكبر مركز من نوعه لمثل تلك الصناعات التي أخذت في الانقراض على نحو لافت خلال العقود الأخيرة.
وتمتلئ الشوارع الثلاثة الرئيسية للحي بعشرات من الورش المتخصصة في صناعة الأخشاب، ومختلف فنون النجارة، خصوصاً ما يتعلق منها بالطرق اليدوية البسيطة، مثل المشربيات أو الأسقف الخشبية المعروفة باسم «البغدادلي»، وتجاور تلك الورش عشرات من الورش الأخرى التي تخصصت في صناعة الرخام، بدءاً من القطع الرخامية المستخدمة في المطابخ الحديثة وانتهاء بشواهد القبور، بينما تقوم ورش أخرى على تلوين تلك القطع تمهيداً لبيعها للزبائن الذين يفدون إلى الحي العتيق من مختلف ربوع مصر لشراء احتياجاتهم، والاستمتاع بتلك الأجواء التراثية البديعة.
تتصدر المنطقة المعروفة باسم «تحت الربع» حي الدرب الأحمر، وتكتسب شهرة عريضة بين المصريين بسبب تخصصها في صناعة الأقمشة وتجارتها، إلى جانب وجود المئات من الورش الصغيرة التي تخصصت في صناعة الأحذية، وتكتسب المنطقة شهرتها من قربها من باب زويلة، وهو أحد أبواب القاهرة القديمة الذي يرجع تاريخ بنائه إلى العصر الفاطمي، وقد كان هذا الباب العملاق يغلق ليلًا ويفتح مع الساعات الأولى للنهار، ليسمح بعبور التجار إلى داخل القاهرة وهم يحملون بضائعهم المختلفة، قبل أن يستقر كثير من هؤلاء التجار في المنطقة ويؤسسون للعديد من الصناعات الحرفية التي ازدهرت مع مرور الزمن، مثل صناعة المنسوجات اليدوية والسجاد الحرير، إلى جانب العديد من قطع الأثاث المطعم بالصدف.
وقد أهلت مهارة الصناع في حي الدرب الأحمر، مصر في وقت من الأوقات إلى احتكار صناعة كسوة الكعبة، فأقامت مصر لها مصنعاً خاصاً ظل يعمل لعقود طويلة، ولا تزال آثاره باقية حتى اليوم في الحي العتيق، وهو المعروف بين أهالي المنطقة باسم «دار الكسوة».
ويقول الباحث نبيل السيد الطوخي، في دراسة محكمة حول طوائف الحرف، إن هذه الحرف التقليدية ظلت لعقود تمثل الصناعة الوطنية في مصر، حيث كان إنتاجها يلبي احتياجات أهل البلاد من الملبس إلى جانب مختلف فنون المعمار والزخارف الحجرية والخشبية والخزفية والزجاجية، حتى أعمال التطعيم بالعظام، والمشغولات النحاسية والفضية، والمنسوجات الحريرية والصوفية، فضلاً عن أشغال التطريز والخيامية.
وقد لعبت براعة الصناع في تلك الفترة دوراً كبيراً في تصدير جانب كبير من هذه المنتجات إلى البلدان الأخرى، بعدما أصبح لتلك القاعدة الصناعية أحياء بكاملها، يعيش فيها الحرفيون تحت نظام دقيق، هو نظام الطوائف الحرفية، الذي يتميز بالقواعد الصارمة، فقد كان له أربابه وشيوخه.
ويضيف الطوخي «كان لكل طائفة رئيس يسمى شيخ الطائفة، يتولى تنظيم شؤونها، والفصل في المنازعات بين أفرادها، وتنظيم العلاقة بينها وبين الحكومة، بينما كانت الطوائف توفر لأعضائها الرعاية الاجتماعية التي تعينهم على تحمل أعباء الحياة، كدعم المرضى والمسنين والمنكوبين، والحقيقة أن طوائف الحرف في مصر لم تقتصر على فئات التجار والصناع، لكنها ضمت في وقت من الأوقات فئات مهنية أخرى، مثل الكتبة والسماسرة والمداحين، وقد جاء على مصر وقت لم تكن فيه مهنة أو حرفة مهما تواضعت إلا وانتظمت في طائفة، حتى الحرف السيئة والإجرامية انتظمت بدورها في طوائف، حيث كان هناك طائفة للنشالين، وكان لها رئيس معروف، وكثيراً ما كان الناس يطالبوه بالبحث عن مسروقاتهم، وتقديم السارقين إلى المحكمة».
يفخر عبد العزيز نعيم بتاريخ عائلته الممتد عبر التاريخ في صناعة ترصيع قطع الأثاث بالصدف، حتى أن ورشتهم الصغيرة في منطقة الدرب الأحمر تحولت إلى قبلة للباحثين والزوار على حد سواء، إذ تعد واحدة من أقدم الورش المتخصصة في هذا المجال بالمنطقة، ويقول نعيم «ورثنا تلك الصناعة عن الآباء والأجداد وحافظنا عليها على مر السنين، لأننا نعتبرها إرثاً لا يتعين التفريط فيه».
يفخر كثير من الصناع في منطقة الدرب الأحمر بكونهم سدنة هذا التراث العظيم، ويبين سامح حسين، الذي يمثل أحدث الأجيال في فنون صناعة الخيامية بالدرب الأحمر «تربيت في ورشة جدي الذي ورثها عن أبيه وأجداده، وأفخر كثيراً بتاريخنا الحافل بالإبداع والمهارة والنضال أيضاً، هذه الأنامل شاركت أيضاً في العديد من الأحداث الكبرى التي مرت على مصر، فقد كان لرجال الصناعات والحرف دور كبير في ثورة القاهرة الأولى عام 1798، حيث أصر شيوخ الطوائف على المشاركة، وأصدر كل شيخ تعليماته إلى طائفته بإغلاق محالهم عند صدور أول إشارة، وكان الجامع الأزهر هو مكان تجمع التجار والصناع والحرفيين الذين التحموا مع الثوار ضد الجنود الفرنسيين، قبل أن يعيدوا الكرة في ثورة القاهرة الثانية التي اندلعت في مارس عام 1800، بشكل واسع وكبير».
* تصوير – أحمد شاكر