فيلم داميان شازيل «بابلون» هو من النوع الذي تعثر تحت ثقل طموحاته. دراما هادئة عن هوليوود العشرينات وما داخلها من فضائح وخطايا وكل ما يمكن أن ينعتها بالفسق والمجون وضمور الأخلاق. سعى داميان شازيل إلى منح مشاهدي اليوم صورة حول ما كانت عليه هوليوود بالأمس. ليس كل الصورة، بل تلك الموصوفة بكل سوء ممكن: الأنانية، الشرب، الإدمان على المخدرات، الحفلات الماجنة، الإخفاقات التي تحطم أصحابها والأحلام التي تدغدغ الساعين إلى الشهرة مقابل أي ثمن ممكن.
المخرج داميانشازيل
النقاد انقسموا، وأغلبهم وجدوا الفيلم حافلاً بأكثر مما يلزمه من طروحات. حمل وزناً زائداً من الأمثلة وحشد لصبغ هوليوود بلون واحد مستوحى من «سادوم وعمورة» ومثمراً عن فيلم لم يرد أحداً مشاهدته.
هذا مؤسف فالمخرج شازيل موهوب كما برهن على ذلك بأفلامه السابقة «سوط» (2014) و«لالا لاند» (2016) و«رجل أول» (2018). مشكلته هي أنه يقصد اصطياد العيوب في المسائل التي يطرحها ف «سياط» كان عن قسوة أستاذاً موسيقياً و«لالا لاند» كان عن افتراق شمل العشاق بفعل أخطاء أصحابها و«أول رجل» لم يكن عن الخطوة الكبيرة لأول أمريكي سار على كوكب القمر؛ بل ما مر به نيل أرمسترونغ من مخاوف وعقبات شخصية وعلمية تم إخفاؤها فيما نشر من كتب وأنتج من أفلام حول الموضوع.
على ذلك «بابلون» هو فيلم مختلف بكم الدكانة التي تميزه.
هوليوود.. فضائح ومساوئ
هوليوود العشرينات، كما وصفها كتاب «هوليوود بابلون» لكينيث أنغر كانت كل ما يصفه فيلم شازيل «بابلون» وأكثر. أنغر كان مخرجاً سينمائياً بدوره تخصص في السينما التسجيلية والسوريالية والتجريبية. كتابه ذاك صدر سنة 1965 ثم سحب من الأسواق (البعض يقول إنه منع) لعشر سنوات قبل أن يصبح متوفراً. سرد المؤلف فيه أحداثاً ومفارقات وحكايات ادعى صحتها في حين ادعى الإعلام أن معظمها كان ملفقاً. الحقائق بذلك ضاعت، لكن من المحتمل أن يكون أنغر، الذي أحاط بهوليوود من العشرينات إلى الستينات، استند إلى أحداث وحقائق أساسية.
لم ينج جون واين وتشارلي تشابلن وإيرول فلين ولانا تيرنر وجودي غارلاند وجون غيلبرت ورودولف فالنتينو وعشرات آخرين أمام الكاميرا وخلفها من أحكامه. اصطاد إدمان جون غيلبرت على الشرب وإدمان جودي غارلاند على المخدرات وموت ثلما تود في سيارتها في ظروف غامضة وجريمة قتل المخرج جون دزموند تايلور التي لم يعرف مرتكبها إلى اليوم، وفضائح كلارا بو الجنسية والعديد المماثل من الفضائح التي رغب أنغر كشفها فيما يشبه الرغبة في استثمار الموقف لجني النجاح على غلافي الكتاب.
مشهد من فيلم بابلون
سينما ضد سينما
ليس أن العديد مما ذكره أنغر ومما شوهد على شاشة فيلم شازيل ليس صحيحاً؛ بل ربما زاد عن حده في كلا العملين. بالنسبة لفيلم شازيل بدا كما لو أنه كان بحاجة إلى خطة عمل مختلفة توفر للمشاهد سرداً أكثر تناسقاً وإقناعاً وأقل سعياً لتغييب الإيحاء مقابل رمي نماذج الانحدار الأخلاقي في وجه المشاهد مباشرة.
في عمومه هو فيلم لا يختلق. الكثير مما يرد في الفيلم كانت له أصول أو أحداث موازية. ما غاب عنه ذلك النقد الخالص الذي ورد في فيلم بيلي وايلدر «صنست بوليفارد» (1950)، حيث لخص الفيلم حالة نجمة من العهد الصامت والناطق الأول (غلوريا سوانسن) بعدما وجدت نفسها معزولة عن هوليوود بفعل سنوات عمرها. تصبو للعودة بفيلم وتتخيل نفسها أمام الكاميرات كما تعودت سابقاً.
الصورة الماثلة هنا لا تنال من هوليوود كوكر فضائح؛ بل تنال منها كمصنع أحلام يدير ظهره للنجوم الذي قام بصنعهم حالما يتم استهلاكهم.
عالج الأخوان جوول وإيثان كوون هوليوود من زاوية مختلفة في أحداث فيلمهما. السيناريو الذي قاما بكتابته هايل وسيزار سنة 2016 مبني على جملة من الأحداث التي وقعت، لكنها محشورة في خانة السخرية والكوميديا السوداء. منتج (جوش برولن) عليه حل المشاكل التي تنفجر أمامه: ممثلة ترفض إكمال دورها، ممثل مخطوف من قبل مجموعة من ضحايا المكارثية، صحفية تريد نقل ما يدور إلى عمودها الفضائحي ومخاطر تأجيل التصوير على فيلم بميزانية ضخمة. هذا إلى جانب مشاكله الشخصية، الصورة هنا سلبية بدورها، لكنها مسلية أكثر مما تنجح في نقل وقائع أو انتقادها.
في هذا المجال نجح روبرت ألتمن، حيث فشل الأخوين كوون. في فيلمه «اللاعب» (The Player) الذي حققه سنة 1992 عن الأحلام التي تدفع بأصحابها إلى التضحية في سبيل القليل من المجد. الفيلم كوميديا ساخرة. لا يقتبس من أحداث واقعة؛ بل يبني حكايته على ما يقارب تلك الوقائع أو بوحيها.
نظرة الفيلم ليست أحلك من نظرة ديفيد لينش في فيلمه الممتاز «مولهولاند درايڤ» (2001) ولا بخفة فيلم S.O.B لبلاك إدواردز (1981).
العالق في الذهن أكثر من سواه، لحداثته بالطبع، هو Once Upon a Time in Hollywood لكونتن تارنتينو (2019) الذي دمج حكاية صعود وهبوط نجم (ليوناردو ديكابريو) ومقتل الممثلة شارون تايت (مارغو روبي) التي تقود البطولة النسائية في «بابلون» في نظرة ذات مسافة عاطفية فهو لا مع ولا ضد ما يعرضه لذلك، فإن رسالته، في أفضل حالاتها، محايدة ولو أنها- في بعضها على الأقل- مسلية.