تضيء فوانيس الشهر الفضيل عتمة الشوارع والبيوت في مصر، في احتفالية شعبية تضرب بجذورها لأكثر من ألف عام ولا تزال قائمة حتى يومنا الحاضر.
تتزين البيوت والشوارع في مصر احتفالاً بقدوم شهر رمضان، في طقس احتفالي لم تبدّله الأيام، ويفتح الباب واسعاً أمام إعادة إحياء العديد من العادات الشعبية المرتبطة على نحو وثيق بالشهر الفضيل، وغيرها من الطقوس التي لم تتغير منذ مئات السنين للاحتفال بمقدمه، على نحو يبعث على البهجة والانشراح لدى الكبار والصغار على حد سواء.
ويروي شيخ المؤرخين المصريين تقي الدين المقريزي في خططه، بدايات احتفال المصريين بشهر رمضان، فتعلق فيه الفوانيس المضاءة ليلاً بمختلف ألوان البهجة. وقد كان بعضها يزن نحو عشرة أرطال؛ أي أربعة كيلوغرامات ونصف تقريباً، وكان البعض الآخر من الضخامة بحيث ينقل على محجل إذا وصل وزنه إلى قنطار.
عرفت مصر فوانيس الإضاءة منذ قرون بعيدة؛ إذ يُرجع كثير من الباحثين أصولها إلى العصور الفرعونية الأولى، لكنها لم تعرف الفانوس بصورته التقليدية الحالية إلا مع دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، قبل أن يتحول الأمر إلى طقس شعبي يرتبط بالشهر الفضيل، بعد أن أصبح الفانوس يمثل أحد الطقوس التي يحرص عليها الأطفال، وهم يتنقلون في الشوارع والطرقات، حاملين الفوانيس المضاءة، ويمرون على البيوت والمقاهي.
وتذكر كتب الحوليات التاريخية عناية السلاطين برؤية هلال رمضان، فقد كان قاضي القضاة في ذلك الزمان يخرج ومعه أربعة من القضاة وعدد من الشهود، ومعهم الشموع لرؤية الهلال، ويشترك معهم في تلك الاحتفالية محتسب القاهرة وتجارها ورؤساء الطوائف والصناعات والشعب، حيث يخرج الجميع لمشاهدة الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون في النحاسين، لوقوعها أمام مدرسة الصالح نجم الدين، فإذا تحققوا من رؤيته، أضيئت الأنوار في الدكاكين، وخرج قاضي القضاة في موكبه، تحفّه الفوانيس بالشموع والمشاعل، حتى يصل إلى داره، قبل أن تتفرق الطوائف إلى أحيائها معلنة الصيام.
يرتبط قدوم شهر رمضان في مصر منذ غابر الزمان، بمختلف أنواع الياميش التي كانت تفرش على أبواب البدالين، ويعج بها سوق السكرية في باب زويلة، فيتسابق الناس إلى الاغتراف منه، وقد كانت مختلف أنواع الياميش في ذلك الزمان رخيصة، فيتمتع بها الغني والفقير، ويوزّع منها على أطفال الحارات، حينما يطوفون على الدور بفوانيسهم الموقدة، محيين أصحابها.
وقد كانت وكالة قوصون في شارع باب النصر التي شيّدت عام 1340 ميلادية، مقراً لتجار الشام ينزلون فيها بضائعهم من الزيت والصابون والفستق، والجوز واللوز والخرنوب، ولما تخربت تلك الوكالة وانتقلت تجارة الياميش إلى وكالة مطبخ العسل في منطقة التمبكشية في الجمالية، خصصت لبيع أصناف النقل كالجوز واللوز ونحوهما.
اهتم سلاطين المماليك بالتوسع في الإحسان والصدقة طوال شهر رمضان، وقد اعتاد السلطان برقوق ـ حسبما يذكر المؤرخ ابن تغري بردي، في كتابه «مورد اللطافة» ـ أن يذبح طوال سلطنته في كل يوم من أيام رمضان، خمساً وعشرين بقرة، يتصدّق بلحومها مع ما يطبخ في قصره من طعام، وما يخبز من آلاف الأرغفة، على أهل الجوامع والخوانق والربط والسجون، بحيث يخصص لكل فرد رطلاً من اللحم المطبوخ وثلاثة أرغفة.
ويذكر كثير من المؤرخين كيف كانت تكثر اجتماعات الناس وزياراتهم طوال شهر رمضان، فإذا تخلّف فرد عن زيارة قريبه أو صاحبه أو معلمه في شهر الصيام، أدى ذلك إلى سوء تفاهم بين الطرفين. كما عمد كثير من الناس إلى إحياء رمضان في الجوامع والمساجد في تلك العصور، بقراءة صحيح البخاري أو صحيح مسلم، أو بالذكر والصلاة، ولا سيما صلاة التراويح.
وقد جرت العادة في عصر المماليك أنه عند ختم القرآن في أحد المساجد في شهر رمضان، يحتفل بذلك احتفالاً كبيراً، فتقرأ القصائد ويجتمع المؤذنون ليكبروا جماعة في موضع الختمة، ثم يؤتى بفرس أبو بلغة ليركبها القارئ الذي تولي قراءة الختمة، فيزفّ إلى بيته في موكب هائل، وأمامه القراء يقرأون والمؤذّنون يكبرون، والفقراء يذكرون، وربما أضاف بعضهم إلى ذلك ضرب الطبل والدفّ والأبواق.
تصوير: أحمد شاكر