نقد فني لثلاثة أفلام طموحة في مهرجان "كان" 2023
لدينا هذا الأسبوع ثلاثة أفلام من مهرجان «كان» طمحت لنيل جائزة السعفة الذهبية وقدمت أوراق اعتماد تستحق من أجلها الفوز.
Jeanne Du Barry
نبذة: قصة آخر عشيقات الملك لويس الخامس عشر.
إخراج: مايون.
تمثيل: مايون، جوني ديب
النوع: تاريخ/ سيرة
يسرد «جان دو باري» مرحلتان من مراحل حياة آخر عشيقات الملك لويس الخامس عشر. الأولى يمر عليها سريعاً وتمثل نشأتها صغيرة وفي مطلع شبابها. والثانية تبدأ بها (كما تؤديها مايون المكتفية باسم أول) بتسلل جان إلى حياة النافذين من أعيان فرنسا وتلقيها دعوة من الملك لزيارته. ومن هنا كيف اتخذها الملك هنري الخامس عشر عشيقة له وهي التي تنتمي إلى بيئة اجتماعية فقيرة وغير مثقفة. ربما كونها آتية من خارج الحلقة الملكية والمجتمع المخملي كان، يوحي الفيلم، عنصراً لوله الملك بها. شاهدها وأعجبته. لم تتعلم قوانين وإرشادات القصر المعتادة في حضرة الملك، لكنه لم يأبه بذلك.
يواصل الفيلم سرد ما حدث في البلاط الفرنسي في قصر ڤرساي الشهير عندما رفضت بنات الملك (من زوجات سابقات جئن من خلفية اجتماعية أعلى شأناً) وجود جان دو باري واستحواذها على اهتمام وحب الملك.
الفيلم مشغول إنتاجياً على نحو جاذب يحتوي على استعراض شامل لكل تفاصيل الفترة وتصاميم المكان والملابس وكل ما ينتمي إلى الصورة زمنياً. يسجل له كذلك حقيقة أن تصويره تم في أماكن الأحداث ذاتها بنسبة كبيرة. هذا يعني استخدام قصر ڤرساي من الخارج بمساحاته الشاسعة والداخل بقاعاته الكبيرة وغرفه الوثيرة. تعرف المخرجة مايون شغلها حين يأتي الأمر لإخراج المشاهد كل على حدة وتدرك كيف تحقق فيلماً جاذباً للانتباه يلعب على الشاشة كعمل تاريخي وكسيرة حياة على نحو متوازن.
على ذلك، هذا النجاح مشهود على صعيد الصنعة الفنية والإنتاجية تثير الإعجاب لدقتها وثراء بصرياتها أكثر مما هو ناضج على صعيد الدراما التي تعرضها تبدو كما لو أنها فقدت هدفها متأرجحة بين سرد قصة حياة وسرد قصة عامة.
هناك، على سبيل المثال، مشاهد طويلة تدور حول مسألة رفض بنات الملك هيامه بامرأة من العموم ومن دون مستوى ثقافي أو اجتماعي وما آل إليه هذا الرفض من ألم في صدر جان دو باري إلى أن (وبعد مشاهد عدة تكرر صور هذا الرفض) يقبلن بها فجأة. وتحيد الحكاية عن الدرب قليلاً عندما يتم تقديم صبي إفريقي صغير تهتم به دو باري على الرغم من سخرية وعنصرية بنات الملك حياله. هذا أيضاً يبدو نتوءاً في جسد الحكاية ولو إلى حين. يمر عارضاً ليترك تعليقاً ثم يمضي.
رغبة مايون أن يسود حضورها الفيلم ترك القليل مما يستطيع جوني ديب فعله على الرغم من أهمية دوره ووجود لحظات عاطفية تعزز حضوره. لكن ما لا وجود له هو تمكين الممثل من بلورة، ولو محدودة، لشخصيته ودوره يرتفع لمستوى ذاك الذي لدى مايون. حضوره بدني أكثر مما هو درامي. هناك انعكاس لدواخل شخصية مساندة هي شخصية مدير شؤون الملك لا بورد (بنجامين لافرني) أكثر مما منحته المخرجة لشخصية الملك التي كان عليها أن تؤدي دوراً موازياً لكي تتعمق الحكاية عوض أن تبقى سرداً قصصياً.
بالنسبة لمايون كممثلة، تشير المصادر التاريخية أن جمال جان دو باري كان باهراً ما منحها القدرة على جذب الرجال إليها والانتقال من الدعة والفقر إلى مخالطة النبلاء وصولاً إلى هنري الخامس عشر نفسه. إذا كان هذا صحيحاً، ولا مانع أن يكون كذلك، فإن جمال الممثلة مايون ليس من النوع ذاته. المشكلة هي أن مايون ممثلة موهوبة وقادرة على حمل فيلم كبير كهذا من دون عناء كتشخيص وحضور، لكن يبقى هناك ذلك الشك حين المقارنة بين جمالها وجمال الشخصية التي تؤديها في الأصل ما يترك فاصلاً غير محبب.
Monster
نبذة: حكاية عن التعنيف من ثلاث وجهات نظر
إخراج: كوري-إيدا هيروكاتزو
تمثيل: ساكورا أندو، إيتا ناغاياما، ميتسوكي تاكاهاتا.
النوع: دراما/ غموض
«وحش» هو أول فيلم لكوري-إيدا يحققه في اليابان بعد خمس سنوات من العمل في إطار السينما الكورية.
الوحش في الفيلم ليس رجلاً يبعث الخوف بأفعاله الوحشية، كما قد يوحي العنوان. على العكس قد يكون ذلك الولد الذي تتمحور حوله العديد من المشاهد سواء في حضوره أو غيابه.
الفيلم في ثلاثة فصول: فصل عن أم الولد التي تبحث عن جواب في المدرسة بعدما وجه إليه الأستاذ كلمة تحقير (قال له «لديك دماغ خنزير») وعاقبه بالضرب أيضاً. بعد استيفاء الموقف من وجهة نظر الأم، ننتقل إلى الحدث من وجهة نظر المعلم، ثم، وفي الفصل الثالث يعرض الفيلم وجهة نظر الولد، أو لنسمها الأحداث كما يعتقد الفيلم أنها وقعت للولد أو بفعله بحيث يمكن اعتبارها وجهة نظر.
مثلما فعل أكيرا كوروساوا في فيلمه الشهير «راشامون» (1950) هي القصة ذاتها من خلال التطرق لها من أكثر من جانب. على عكس ذلك الفيلم، النص يغلب الصورة في أكثر من مناسبة والتوجه للبحث عن الواقع (وليس عن الحقيقة بالضرورة) يسود فوق العناية بالمعالجة فنياً. هذا يعني أن السرد يثير الاهتمام بسبب مضمونه أكثر مما يثير الاهتمام بالكيفية التي عالج فيها المخرج تلك الحكاية من ثلاثة جوانب.
يفتح الفيلم على نار تلتهم النصف الأعلى من بناية تقع في بلدة ناغانو المشرفة على ساحل بحيرة كبيرة. النار ترمز إلى الوحش بدورها. لا يبحث الفيلم مطلقاً في الفاعل (رغم اشتعال النار في عمارتين لاحقتين) ولا يتم الحديث عنها كثيراً بين الشخصيات. في المقابل، هناك تصوير بديع للماء. للبحيرة أولاً ثم للمطر والعواصف العاتية التي تهاجم البلدة من دون رحمة. شلال من السماء يهطل فوق الجميع بلا هوادة. العاصفة بدورها قد تكون الوحش المعني. المشكلة هي أن هذا البعد لا يعرف الوضوح، ما يعزز احتمال أن يكون الوحش ذلك الصبي الذي تعرض لاعتداءات لفظية أثرت على رغبته في أن يكون مقبولاً لدى الآخرين وعدائياً صوبهم..
لذلك يبقى سؤال كبير واحد عمن يكون هذا الوحش، مع افتراض كبير بأن المقصود هو ذلك التصرف الداكن الذي يعيش داخل الإنسان ذاته. التيمة جديدة كقصة لكنها ترتاح أكثر مما يجب بين فقراتها، وعدم سردها على خط واحد يبعث السأم والاهتمام على نحو متوازن.
Homecoming
نبذة: خديجة وبنتاها تتمتعن بعطلة مقلقة
إخراج: كاثرين كورسيني
تمثيل: أيساتو ساغنا، استر غوهوراو، سوري بيمبا
النوع: دراما مهاجرين
دراما فرنسية بأسلوب تلك السينما الذي يفضل الحوار على العناصر الجمالية والبصرية. «العودة» لكاثرين كورسيني، فيلم عن عطلة لعائلة إفريقية متمثلة في الأم خديجة (عيشاتو ديالو سغنا) التي تستلم مهام رعاية أولاد عائلة (بيضاء) تسكن جزيرة كورسيكا خلال غياب الزوجين عن البيت. إنها فرصة لخديجة لكي تقضي مع ابنتيها ما يشبه العطلة في تلك الجزيرة، إنها الزيارة الثانية لها، إذ يبدأ الفيلم بمشهد يقع زمنياً قبل خمس عشرة سنة عندما هربت خديجة من كورسيكا بابنتيها اللتين كانتا طفلتين صغيرتين آنذاك.
يكشف الفيلم لاحقاً عن سبب الحدث الذي دفع العائلة للهرب من الجزيرة فقد توفي زوج خديمة (ووالد الفتاتين) في حادثة لا يود الفيلم الكشف عنها سريعاً، لكن لا تود المخرجة كورسيني تحويل حكايتها إلى بحث تشويقي. ترضى بعدم تعريض الفيلم لحكاية متسعة زمنياً لأكثر من مناسبة محدودة. تجد غايتها في الإحاطة الرومانسية بين الشخصيات والمكان وبين الشقيقتين المراهقتين وملامح الحب الأول لكل منهما.
هناك نوع يرتاح إليه الجمهور الفرنسي، ويطلبه كثيرون من المخرجين الفرنسيين، وهو نوع أفلام العطلة. تبدو جذابة، طبيعية، هادئة، لكنها لاحقاً ما تحتوي على عواصف عاطفية ونفسية مرهقة. في هذا الصدد، لا يختلف «العودة» عن سواه من الأفلام، ولا حتى في نواحي أخرى باتت تقليداً متوقعاً. قصتا الحب اللتان نراهما خلال هذا الفيلم لا تختلفان إلا قليلاً عن حبكات بعض أفلام الراحل إريك رومير، لكن الجديد فيهما أنهما تقعا على خلفية لون البشرة السمراء. بالتالي يتابع المشاهد مفارقات اعتاد عليها إذا ما كان شاهد أعمالاً مماثلة من قبل. هناك لمسات رقيقة إضافية لكنها لا تكفي لصنع فيلم جيد.
التمثيل طبيعي وهذا جيد وسيئ معاً. التمثيل الطبيعي قد يناسب مثل هذه الأفلام لكننه يحمل في الوجه الآخر التقليل من الاعتماد على تكثيف الدراما الذاتية للشخصية. رغم ذلك تأتي الممثلة أيساتو ساغنا، في دور الأم خديجة، لتثبت أنها موهوبة وذكية في التعامل مع الدور. لا عجب في ذلك فهي درست التمثيل المسرحي ومارسته قبل أن تطلبها السينما للعمل في مداراتها أيضاً.