15 يونيو 2023

Killers of the Flower Moon.. فيلم مارتن سكورسيزي الجديد.. ما له وما عليه

ناقد ومؤرخ سينمائي، وُلد وترعرع في بيروت، لبنان ثم هاجر إلى الغرب حيث ما زال يعيش إلى الآن معتبراً السينما فضاء واسعاً للشغف

Killers of the Flower Moon.. فيلم مارتن سكورسيزي الجديد.. ما له وما عليه

هذا الفيلم الجديد من تمثيل روبرت دي نيرو، ليونارد ديكابريو، ليلي غلداستون. والحكاية التي يعمد إليها المخرج الشهير مارتن سكورسزي واقعية منسوجة من كتاب لديڤيد غران كتب كتقارير وصفية وليس كرواية سنة 2017. غران صحافي من فريق مجلة «ذا نيويوركر» الأميركية وهو وضع كتاباً كاشفاً عن سلسلة من الجرائم التي وقعت في ولاية أوكلاهوما في مطلع العشرية الثانية من القرن الماضي وسجلت على أساس أنها جرائم انتحار.

Killers of the Flower Moon.. فيلم مارتن سكورسيزي الجديد.. ما له وما عليه

في الواقع يبدأ سكورسيزي فيلمه بنماذج منها. أشخاص غامضون يقتلون رجالاً من قبيلة أوساج الهندية. هذه البداية شبيهة ببداية فيلمه الشهير Goodfellas الذي عمد فيه إلى تصوير سقوط ضحايا عمليات مافاوية في نيويورك. الفارق أن الأحداث التي يتناولها في «قتلة فلاور مون» وقعت بالفعل ولو أنها سجلت كحوادث انتحار عبر «شريف» البلدة المرتشي. أسبابها، كما يكشف الكتاب والفيلم، أن القبيلة التي تم ترحيلها من موطنها السابق في ولاية كنساس وإسكانها ولاية أوكلاهوما، اكتشف النفط تحت أقدامها في موطنها الجديد. عرف أفرادها الثراء المفاجئ وهذا ما تسبب بحسد أبناء البلدة وما دفع الحكومة للتواطؤ مع بعض النافذين لإصدار قرار غريب من نوعه يعتبر أن الأوساج ليسوا مؤهلين لاستثمار أموالهم وإنهم بحاجة لمرشدين لذلك.

Killers of the Flower Moon.. فيلم مارتن سكورسيزي الجديد.. ما له وما عليه

دوامة الخداع وآلة القتل

وليام هايل (Hale)، كما يؤديه روبرت دي نيرو، أحد الذين اعتبروا أن هذا الثراء يجب ألا يكون من نصيب «ذلك العنصر» (That race)، كما يقول في أحد المشاهد، وعبر أذرعه النافذة يرسل من يقتل أثرياء القبيلة بينما يتظاهر بحبه لهم ومودته وكل ما من شأنه استمرار خداعهم.

إلى هذا المكان يصل أرنست (ليوناردو د كابريو) باحثاً عن عمل عند عمه وليام. العلاقة مع عمه بدأت، عائلياً، طبيعية من حيث إنه لم يكن يدري ما يخبأه عمه له. يلاحظ العم أن ابن أخيه يرمق امرأة هندية ثرية اسمها مولي (ليلي غلادستون) بإعجاب. يدفعه للزواج منها ليس لأنه يكترث للتوفيق بين عاشقين، بل لأنه إذا ما قتل والدتها ثم قتل شقيقتها ثم قتلها فإن الثروة ستقع بين يدي إرنست وبالتالي بين يديه هو.

لا داعي لتفاصيل كثيرة لولا أن تحليل هذا العمل لا يمكن أن يتم إلا بإيضاح، لكن التركيبة الدرامية المذكورة تأتي كاملة في نصف الساعة الأولى من الفيلم ولدى المشاهد نحو ثلاث ساعات أخرى من التفاصيل. ذلك الزواج يمشي حسب المقرر له وعندما يطلب من ارنست أن يتسبب في موت بطيء لزوجته لا يتوانى. مع انحدار صحتها وإشرافها على الموت، يزداد الوضع البائس الذي يواجهه ارنست بالانصياع أكثر وأكثر لعمه. يستمر هذا لما بعد وصول رجال الأف بي آي (يقودهم الجيد جسي بليمونز) للتحقيق ووضع حد للقتل المباح.

ارنست لا يتوقف عن الكذب على زوجته. الغنيمة تعميه وعمه لا يمكن عصيانه لكن تورطه في خطته كما في توجيه أزلام لتنفيذ عمليات قتل تنكشف للمحققين.

Killers of the Flower Moon.. فيلم مارتن سكورسيزي الجديد.. ما له وما عليه

واجهة الجشع والعنصرية

بعد المشهد الأخير من الدراما يفتح سكورسيزي على مشهد لمسرح إذاعي يتم فيه تقديم ما آلت إليه شخصيات الفيلم الأساسية. هذا الاستخدام بديل لما اعتادت السينما تقديمه عبر كلمات تشرح مآلات الشخصيات مطبوعة على شاشة سوداء. الطريقة الجديدة تستخدم ما كانت أيام الراديو تستخدمه من ممثلين يروون على خلفية مؤثرات سمعية (بوق سيارة، حوافر حصان، جرس باب الخ...). ثم ها هو سكورسيزي نفسه يضع الكلمة الأخيرة على كل شيء وتسدل الستارة عليه.

إنها خاتمة جديدة بالفعل لكنها تترك مذاقاً كوميدياً على المأساة التي أمضى المخرج تلك الساعات لتعميقها. في الأساس لا يتجنب المخرج الدفاع عن مصير تلك القبيلة وما شهدته من ظلم وخداع. الأشرار هم كل البيض في الفيلم (باستثناء المحققين). طالما أن هذا مقتبس من وقائع لا بأس خصوصاً وأن المواطنين الأصليين لأميركا عوملوا منذ وصول كولمبوس لسواحل القارة الشرقية كما لو أنهم مجموعات متوحشة تستحق السطو على أراضيهم وقتلهم ونقلهم من مكان إلى آخر لتوسيع مساحات الاستيطان خصوصاً إذا ما كان القبائل تعيش فوق ركام من الذهب والفضة.

موسيقا روبي روبرتسون تكاد تنطق حواراً من شدة امتزاجها بواقعية الفترة والمكان. سبق لروبرتسون أن وظف موسيقاه في فيلمين لسكورسيزي هما The Wolf of Wall Street سنة 2013 وThe Isrishman في 2019. بالإضافة إلى ذلك، استعان الفيلم بأغاني بلوز من الفترة من أمثال فرد ماكدوول وصن هاوس وبلايند ليمون جفرسون.

Killers of the Flower Moon.. فيلم مارتن سكورسيزي الجديد.. ما له وما عليه

فيلم سكورسيزي يواصل ما بدأه من قبل في أفلامه عموماً: يروي الحكايات من وجهة نظر الجلادين أو القتلة وليس من وجهة نظر الضحايا. وحدها غلادستون، في دور الزوجة، تعبر هنا عن تراجيديا الجشع والعنصرية، لكن الواجهة الأساسية لا تزال ملكاً للشريرين روبرت دي نيرو وليوناردو ديكابريو.

المقارنة بينهما على صعيد الأداء تشي بأن كل منهما لجأ إلى ما ينص عليه الدور: دي نيرو يمتلك الدراية لتبوؤ الشخصية المهيمنة والتسلط ولجعل نفسه مكروها. ديكابريو يؤدي شخصية المغلوب على أمره والتائه ما بين ضمير يموت وجشع يرتفع لكنه لا يملك كيفية جعل نفسه مكروها. يتوقع المرء هنا أن يصحو من أفعاله، لكن تكرار وقفاته المتسائلة عن أخلاقية ما يقوم به تفرغ مشكلته من داخله ليبقى التمثيل. قد يكسب تعاطفا لكن هذا التعاطف يذبل تدريجياً من دون أن يبلور الممثل وضعه حيال ما يؤديه على نحو كامل.

في نواحي أخرى من هذا العمل، ولجانب إخفاق مشهد النهاية في إيداع رسالة الفيلم في الإطار الصحيح، هناك إخفاق في دفع الأحداث إلى تشويق فعال. طبعاً لا ننسى أن الفيلم وسترن، إلى حد (لكنه ليس فيلم أكشن عن الهنود الحمر والجنود الزرق ولا هو فيلم رعاة بقر) وسكورسيزي لا يعالجه على هذا الوضع وهذا اختيار لا غبار عليه. لكن هذا لا يعفي الفيلم من طريقه في حث الأحداث صوب مستوى من التشويق خصوصا مع وجود تلك المناطق التي يبدو فيها الفيلم وهو يكرر مفاداته. ربما حقيقة أن الفيلم مقتبس عن كتاب غير روائي يلعب دوراً في ذلك، لكن حتى هذا يبرر غياب أي تشويق فعال أو أي غموض كان يمكن استخدامه لمنح الدراما بعض المفاجآت.

تساءل هذا الناقد عما سيكون الفيلم عليه لو أن فرنسيس فورد كوبولا أو برايان دي بالما أو كلينت ايستوود أو مايكل مان هو من أخرج الفيلم. وفي كل الأحوال لا يجب أن ننسى أن الراحل حديثاً مايكل أبتد أنجز فيلمين مثاليين في تعاملهما مع أوضاع مشابهة هما «ثندرهارت» (thunderhart) و«حادثة في أوغلالا» (‪(ncident at Olgala وكلاهما في سنة 1992.
الأول خيالي حول ڤل كيلمر يحقق في جريمة قتل المتهم فيها هندي، والثاني تسجيلي حول أحداث وقعت سنة 1975 عندما تسبب تصدي الأف بي آي ومضايقتهم لهنود ولاية داكوتا الجنوبية في مقتل إثنين من المحققين. كلا هذان الفيلمان حملا معاً الواقعية من ناحية والحدة من ناحية أخرى وتم بناؤهما للكشف عن مأساة المواطنين الأصليين لأميركا على نحو جيد وواضح.