تخفت الأضواء في المعابد الأثرية في مصر عند قدوم الليل، فتتحول تحت ضوء القمر إلى كائنات أسطورية عملاقة يغلفها السكون، إلا من صفير رياح خفيفة، ووقع أقدام عشرات من الحراس الذين ينتشرون في جنباتها، بعمائمهم البيضاء وملابسهم التقليدية، للحفاظ عليها من عبث العابثين، في مهمة ثقيلة لا تخلو من إثارة ومتعة.
يحترف أكثر من ثلاثمئة حارس، ينتشرون في عشرات من المعابد والمواقع الأثرية المهمة في مصر، هذه المهنة المثيرة، ويتوارثونها عن الآباء والأجداد، حيث تبدأ مناوباتهم في الحراسة عند حلول الليل وتستمر حتى الساعات الأولى من الصباح، للحفاظ على هذا الإرث الحضاري والثقافي العظيم، غير عابئين بتلك الحكايات المرعبة التي لا تزال تحفظها الذاكرة الشعبية عن ظهر قلب، والتي تضفي على كثير من تلك المعابد كثيراً من الرهبة المغلفة بالأساطير القديمة.
تقترب الشمس من المغيب، فيحمل العم مبارك علي، حارس معبد الكرنك، عصاه ويتزود بالقليل من الطعام وكمية مناسبة من الشاي، قبل أن يغلق خلفه باب بيته، ليبدأ مناوبته الليلية في واحد من أشهر المعابد المصرية قاطبة، وهو معبد الكرنك على نيل الأقصر.
احترف هذه المهنة منذ ما يقارب الثلاثين عاماً، متذكراً مناوبته الأولى في وقت لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره بعد، ويقول إنها واحدة من الليالي التي لم تغب عن ذاكرته أبداً، حيث عرف وقتها معنى تلك الهيبة التي تهبط على المعبد في الليل، وتحول جدرانه العالية إلى كائنات حية تنبض بالحياة.
لا يؤمن العم مبارك بما يتداوله كثير من أهالي الصعيد من حكايات حول لعنة الفراعنة، لكنه لا ينفي ما شاهده في سنواته الأولى من رؤى غريبة أثناء مناوباته الليلية، مضيفاً «المعابد لها مهابة كبيرة لا تظهر سوى في الليل، عندما يسكن كل شيء من حولك. وقد كنا ونحن في بداية عملنا نشاهد أشياء عجيبة، عبارة عن خيالات لأشخاص لا نراهم، وعندما كان بعضنا يخلد للنوم كنا نشاهد رؤى عجيبة لأشخاص ينادوننا بأسمائنا، وعندما كنا نتحدث مع من سبقونا في تلك المهنة، كانوا يطمئنونا ويطلبون منا ألا نلتفت لذلك كثيراً». ولكن ينفي كثير من خبراء الآثار ما تردد عبر قرون عن لعنة الفراعنة، ويقولون إنها محض خيالات وتصورات شعبية، لكن العم مبارك يعتقد أنها حقيقة.
يتذكر العم ماهر سعيد، وقد بلغ السبعين من عمره، قضى معظمه حارساً لعدد من المقابر والمعابد الفرعونية، تلك الليلة التي تسلم فيها عمله في معبد الأقصر، وكان وقتها ابن ستة عشر عاماً، ويقول «لم أكن أتصور عندما غادرت قريتي التابعة لمدينة دندرة في محافظة قنا، في طريقي إلى الأقصر بحثاً عن لقمة العيش، أنني سوف أحترف تلك المهنة، التي بدأتها بأجر لم يكن يتجاوز 16 قرشاً يومياً، لكنها رحلة حياة طويلة قضيتها بين المعابد المختلفة، وتعلمت خلالها التحدث بأكثر من ثلاث لغات أجنبية، رغم أنني لا أعرف القراءة أو الكتابة بالعربية».
قضى ماهر سعيد أكثر من ثلاثة عقود حارساً لمعبد دندرة، قبل أن يحال للتقاعد منذ ثماني سنوات تقريباً، لكنه لا يزال يحتفظ في ذاكرته بتلك الليالي المثيرة التي كان يشاهد فيها فيما هو بين النوم واليقظة، هؤلاء الأشخاص الغرباء وهم يرتدون الملابس الفرعونية، يهاجمونه ويحاولون طرده من ساحة المعبد، وكيف كان يستيقظ في كل مرة يظهرون له فيها على تلك الهيئة، وهو يصرخ طالباً النجدة من زميله الذي يجاوره، ويؤكد «ظلت تلك الأحلام تداهمني لسنوات، حتى شعرت ذات ليلة بأن سقف المعبد يكاد يسقط فوق رأسي، فقمت من نومي مذعوراً، وعندما رويت لزميلي ما شاهدته، قال لي إنهم حراس المعبد، وأنني يجب أن أثبت لهم أنني موجود هنا للحراسة».
على مدار سنوات شاهد ماهر سعيد العديد من الطقوس الشعبية التي كان يقوم بها كثير من أهالي دندرة بالقرب من المعبد، ويتذكر تلك الليلة التي طلب منه فيها أحد الأهالي أن يسمح لزوجته بدخول إحدى غرف المعبد، لعل الله يرزقهم بطفل، ويقول «أخبرني الرجل بأنه متزوج منذ خمس سنوات، ولم يرزقه الله بالذرية، ولأسباب إنسانية سمحت لزوجته بدخول بهو المعبد ليلاً، لنفاجأ بها تصرخ بعد دقائق وتخرج مسرعة، بعدما شاهدت ثعباناً ضخماً يهاجمها».
أما الشيخ طلعت، وهو أحد الحراس المقيمين في معبد دندرة، فهو يستقبل وفود السائحين الذين يتدفقون على المعبد الشهير منذ الساعات الأولى للصباح كل يوم، فيحكي لهم بالإنجليزية قصة هذا المعبد الذي نهب كثير من محتوياته أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر، ويقول إنه فخور بعمله كحارس لهذا التراث العظيم، مشيراً إلى أنه كان أحد الخفراء الذين شاركوا في حراسة عدد كبير من المعابد، مثل معبد الكرنك في الأقصر، إلى جانب مشاركته في نقل مجموعة من الكباش الأثرية إلى المتحف المصري بالتحرير. ويبين الشيخ طلعت أنه شاهد بعينيه كثيراً من الظواهر غير الطبيعية التي تحدث ليلاً في كثير من المعابد، ويضيف «كنت أسمع أصواتاً تشبه الهمهمات، وكنت دائما ما أتجاهلها، حتى فوجئت ذات ليلة بمن يناديني باسمي، وعندما حاولت أن أقترب أنا وزميلي من مصدر الصوت شاهدنا ما يشبه تمثالاً ضخماً يتحرك، وهو يشير إلينا بإحدى يديه، فعدنا إلى أماكننا مذعورين».
لا يعترف كثير من حراس المعابد في مصر بما يسمى «لعنة الفراعنة»، لكنهم يؤمنون إلى حد اليقين بما يسمى «الرصد» التي يقولون إنها تلك الفئة من الجان المعمر التي تقوم على خدمة هذه المعابد، والذين تظهر أطيافهم في صورة خيالات خصوصاً في الليالي القمرية، قبل أن يختفوا بسرعة مثل السراب. ويقول الريس فهيم، الذي يقوم على حراسة أحد المعابد في البر الغربي بالأقصر، «ذات ليلة شعرت وكأن أحدهم يلمس رأسي، لكن مع مرور الوقت تعودنا على ذلك، وأصبحنا نتجاهل كثيراً مما يحدث في الليل، خصوصاً تلك الأشباح التي كنا نراها ثم يختفون في لمح البصر، فالتجاهل في مثل تلك الحالات هو أفضل حل».
يؤمن كثير من حراس المعابد والمقابر الفرعونية في صعيد مصر بأن كثيراً من الكلمات المنقوشة على كثير من جدران المقابر والمعابد الفرعونية، بما فيها الهرم الأكبر ومقابر وادي الملوك والملكات، ليست سوى طلاسم سحرية مخصصة لحماية تلك المقابر والمعابد من عبث اللصوص. بل إن بعضهم لديه اعتقاد كامل بأن الجن ربما يكونون قد ساعدوا الفراعنة القدماء في بناء الأهرام، مدللين على ذلك بأن أحجار الأهرام موضوعة بطريقة هندسية لا يمكن للإنسان الوصول إليها في تلك الأزمنة الغابرة، لكن كثيراً من خبراء الآثار يقولون بأن مثل تلك الأقاويل عبارة عن أحاديث مرسلة تناقلتها ألسن البسطاء على مر العصور، قبل أن تتحول إلى قصص محبوكة تلهم الذاكرة الشعبية.
* تصوير: أحمد شاكر
إقرأ أيضاً: أسرار مقبرة الملك رمسيس الثالث.. أجمل المقابر الملكية في الأقصر