09 ديسمبر 2020

حكايات وأسرار جزيرة سهيل في النوبة

محرر متعاون من القاهرة

حكايات وأسرار جزيرة سهيل في النوبة

تجذب قرى النوبة المطلة على نيل أسوان، في هذه الفترة من كل عام ، الآلاف من الزائرين الباحثين عن المتعة والاستجمام، بعيدا عن صخب المدن، بما تملكه من طبيعة بكر، وأجواء ساحرة تروي فصولا من حياة النوبة القديمة، تلك البلاد التي عرفت في الجغرافيا السياسية لمصر باسم «بلاد الذهب» قبل أن تبتلعها مياه النيل مطلع القرن الماضي وتحول جزءاً كبيراً من تاريخها العريق إلى أثر بعد عين.

حكايات وأسرار جزيرة سهيل في النوبة

تغفو جزيرة سهيل، وهي واحدة من الجزر النوبية القديمة التي أفلتها عنفوان النيل، على صفحة النهر مستأنسة بتاريخها العريق الذي دشنه الملك سنوسرت الثالث، أحد أشهر ملوك الدولة الوسطى في مصر القديمة، عندما شق أول قناة بين صخور الشلال الأول، ليقسم الجزيرة إلى نصفين، تسهيلاً لحركة الملاحة أمام المراكب التجارية التي كانت تأتي إلى مصر محملة بأهم منتجات القارة الإفريقية عبر نهر النيل، وسعيدة في الوقت نفسه بمئات الرحلات التي تتدفق سنوياً على القرية الصغيرة التي بنيت ناحية الغرب، مع بناء خزان أسوان عام 1902، والتي تعرف باسم «قرية غرب سهيل»، ويسكنها منذ عقود عشرات من الأسر النوبية الخالصة التي تنحدر أصولها من مملكة كوش القديمة.

«شاطئ البربر»

«شاطئ البربر»

تقدر مصادر رسمية عدد سكان قرية غرب سهيل والقرى الصغيرة التي تتناثر حولها بنحو عشرة آلاف نسمة، يحترف معظمهم مهن الإرشاد السياحي والصيد والتجارة مع الأسواق السودانية القريبة، لكن ذلك لم يمنع تحول القرية على طبيعتها الساحرة وفرادة معمارها وطبيعة الحياة فيها، إلى نموذج فريد للسياحة البيئية، خصوصاً وأن الغالبية العظمى من سكانها لا يزالون حريصين على تراث الأجداد، بل ولغتهم القديمة أيضاً التي تنحصر في لهجتين رئيسيتين هما «الفاديكا» التي تتحدث بها قبائل المحس والسكوت وأهل المناطق النوبية الواقعة في الجنوب والأكثر قرباً للسودان، و«الماتوكي» التي تتحدث بها قبائل الكنوز، وهي لهجات غير مكتوبة، إذ لم تعرف لها حروف خاصة مثل باقي اللغات المدونة، رغم وجود بعض المخطوطات النوبية القديمة، وقد عثر عليها مدونة بالحروف اليونانية.

تشق مركب شراعية عباب النهر في مهارة لاعب أكروبات، غير عابئة بعشرات من الجنادل الصغيرة التي تعترض مسار النهر في تلك المنطقة الساحرة من النيل، قبل أن ينتهي بها المسار الى شاطئ رملي ناعم يطلق عليه السكان المحليون اسم «شاطئ البربر»، إذ كان هذا الشاطئ حتى وقت قريب نقطة الاستراحة والاستجمام لتجار الإبل في طريق عودتهم من السودان، عبر «درب الأربعين» التاريخي وهو الطريق البري الذي يربط مصر بالسودان، الذي اشتهر على مدار قرون بتجارة الإبل والرقيق، وكان يبدأ من دارفور وينتهي عند إمبابة في محافظة الجيزة.

بيوت جزيرة سهيل

بيوت جزيرة سهيل

عادة ما يرى الزائر مجموعة من النوق، تقف قبالة الشاطئ في شموخ يليق بهيبة المكان وسحر طبيعته وكأنما ترحب بالزائرين الذين يقفزون إلى رمال الشاطئ في خفة ومرح، ويستعدون بآلات التصوير والهواتف النقالة لتوثيق هذه اللحظات الفريدة، بينما تغوي المياه الصافية آخرين على القفز إلى مياه النهر، لكن الأمر لا يستغرق سوى ثوان معدودة حتى يتسابق الجميع إلى الخروج، بعد أن يخبرهم مشرف الرحلة ضاحكاً بأن السباحة مع التماسيح العملاقة، التي تسكن المياه العميقة في تلك المنطقة من النهر، تتطلب مهارات خاصة. وعلى مرمى البصر، تبدو بيوت جزيرة سهيل أقرب ما تكون الى لوحة فنية أبدعتها أنامل فنان، إذ يتماهى لون البيوت المطلية بالأبيض والأزرق السماوي مع ألوان حجارة الجرانيت القاسية، وزرقة مياه النهر، واصفرار الصحراء المحيطة التي لا تخلو من النخيل، ليتحول المشهد الى لوحة فنية تنعش الروح وتبعث الطمأنينة في النفوس المتعبة، أو تلك الباحثة عن أيام قليلة من الاستجمام بعيداً عن صخب الحياة في المدن.

لا تتوقف شهرة جزيرة سهيل، القابعة على شاطئ النيل جنوب مدينة أسوان في مصر، عند حد كونها أقدم جزيرة نوبية بقيت على حالها بعد بناء السد العالي، وإنما لأنها تعد بحق متحفاً مفتوحاً يروي تاريخ النوبة، ويقدم للزائرين حكايات مملوءة بالحنين والشجن للنوبيون الأوائل الذين سكنوا تلك المنطقة قبل آلاف السنين، وشيدوا حضارة عريقة امتدت من مصر إلى الحدود الشمالية للسودان، فيما يعرف في الأدبيات التاريخية بـ«مملكة كوش القديمة».
تجذب قرى النوبيين بالقرب من جزيرة سهيل السائحين من مختلف الجنسيات، لقضاء أوقات من البهجة والمتعة والاستجمام وسط تلك الطبيعة الساحرة، وتحت قباب بيوت ما زالت تحتفظ بالأصالة وعبق التراث الإنساني، وقد بنيت على غرار البيوت النوبية القديمة التي انتشرت على ضفاف النهر، قبل بناء خزان أسوان مطلع القرن الماضي ومن بعده السد العالي في الستينيات، وما انتهى إليه الأمر من تهجير عدد غير قليل من هذه القرى حفاظاً على أرواح ساكنيها من مياه النهر التي ابتلعت البيوت والحقول في البحيرة العظيمة التي تكونت خلف جسم السد.

تربية التماسيح

تربية التماسيح

 تتميز بيوت قرى جزيرة سهيل بسمتها النوبية الأصيلة، فجميعها مبني على المدرجات الجبلية المنحدرة في تلك المنطقة، لكنها رغم ذلك لا تخلو من مفردات العمارة النوبية القديمة، مثل الفناء الداخلي والزخارف الخارجية بألوانها الزاهية ورموزها التي تروي ملامح تلك الحضارة العريقة التي تشكلت على ضفاف النهر العظيم، بل إن كثيراً من هذه البيوت ما زالت تحرص على تربية التماسيح التي كانت ترمز في العقيدة المصرية القديمة إلى «إله البعث والخصوبة». فالمصريون، حسبما تذهب العديد من الدراسات التاريخية الموثوقة، لم يعرفوا عبادة الحيوان، بل كانوا يرمزون لـ«الإله» برموز شتي، تجسد صفاته، وقد كان «سوبك» يمثل في الميثولوجيا القديمة على هيئة إنسان برأس تمساح، أو على شكل تمساح كامل.

تحرص العديد من العائلات في غرب سهيل على تربية التماسيح إحياء لتراث قديم صنعه الأجداد

يقف الحاج ناصر بلانه، أحد أبناء قرية غرب سهيل، أمام أحد الأقفاص الحديدية المغطاة بلوح من الزجاج، والتي تربي فيها أسرته خمسة من التماسيح متوسطة الحجم، ويقول «تحرص العديد من العائلات في غرب سهيل على تربية التماسيح إحياء لتراث قديم صنعه الأجداد، وغالباً ما يتم وضع التمساح فى حوض زجاجي أو حوض مبني من الطوب ومبطن بالسيراميك للحفاظ على برودة المياه، وتوفير بيئة مناسبة للتماسيح التي يحرص السياح على مشاهدتها عن قرب، بل واللعب معها أيضاً، فالتمساح يظل مسالماً حتى سن البلوغ، بعدها يصبح التعامل معه بحاجة الى خبرة وحرص كبيرين».

حكايات وأسرار جزيرة سهيل في النوبة

تحترف نساء قرى جزيرة سهيل صناعة المشغولات اليدوية، وبالطريقة نفسها التي اشتهرت بها قرى النوبة القديمة في مصر، وهي تتراوح ما بين الحلي والأقراط ذات الألوان المبهجة وأغطية الرأس بالألوان النوبية المعروفة، فضلاً عن بعض أنواع السجاد اليدوي المصنوع من قصاصات الأقمشة الملونة. وتعكس دقة الصناعة في هذه القرى الدور الكبير الذي تلعبه المرأة النوبية في الحفاظ على التراث النوبي، وغيرها من العادات والتقاليد التي يتم توارثها ضمن نظام صارم لا يمكن التساهل معه أو الالتفاف عليه، محملة بهذا الشجن النبيل لحكايات متوارثة عن هجرة الآباء الأولين من قرى النوبة القديمة عام 1912.

تصوير: أحمد شاكر