غلاء "الديزل" زاد شتاء اللبنانيين قساوة وقطع أشجار الغابات.. و"حبوب كبس النشارة" هي المنقذ
دعوات لحماية الغابات ووقف قطع أشجارها
لا يزال الشتاء بكل قسوته حاملاً أكبر الهموم لسكان الأرياف اللبنانية، بسبب التكاليف العالية لعملية تأمين التدفئة شتاء، إنْ لجهة اختيار نوع الوقود المناسب، أو لجهة التكاليف الباهظة التي يتطلبها تأمين هذا الوقود.
شجر الأرز
المعروف أن الريفيين اللبنانيين اعتادوا منذ القدم، وهم العاملون بالزراعة، الاعتماد على الحطب كوقود تدفئة شتوية، ممّا كان يؤمّنونه من خلال تقليم الأشجار وتشذيبها، وعند الحاجة بقطع الشجرة كاملة للوقود. ورغم ذلك، لم تتأثر الثروة الحرجية من تقطيع المزارعين والريفيين للأشجار، لأن شجرة بديلة تنمو وتعوّض الخسارة، خصوصاً أن جبال لبنان كانت مكسوّة بالغابات من ارتفاعات تكاد تكون ساحلية.
شجر اللزاب
كان الصنوبر يغطّي ارتفاعات حتى الثمانمئة متر، والسنديان أكثر من ذلك بقليل، أما الارتفاعات الشاهقة فقد كانت مغطاة بأشجار الأرز، واللزّاب، والشوح، وسواها. ولأن أكثر شجرة تتحمل الارتفاعات العالية وتعيش فيها هي شجرة اللزّاب، التي يمكن أن تنمو على مرتفعات عالية فوق 2400متر، وهي شديدة الصلابة، ويتعذر دقّ مسمار فيها، فقد استفاد الريفيون من صلابتها في تأمين دعائم منازلهم القديمة.
ولكن الإشكالية الكبرى مع اللزاب أن تكاثرها صعب، ويقتضي عبور بذرتها في بطن طير نادر يدعى «الكيخن»، لكي تصبح قابلة للإنبات. أما شجرة الأرز فتعيش على ارتفاعات لا تزيد على الألف وثمانمئة متر، ورغم صلابتها، فهي أقل قساوة من اللزاب، وأكثر مطواعية، فاستعملت في أثاث المنازل، والشوح أقل قليلاً من الأرز، لناحية الصلابة، وتحمّل الارتفاعات.
إن غابات لبنان التي كست قممه، باتت اليوم تجمعات أشجار بأعداد قليلة على عدد من القمم، فاللزاب يتوافر في أعالي جبال عكار، والضنية، ولم يبقَ من أعداده إلا القليل، والأرز يتواجد على عدد من القمم، منها القموعة في عكار، والضنيّة، وجبال الأرز فوق بشري، وتنورين، وجاج في أعالي جبيل، وغابة أرز الشوف..
هذه التجمعات المتفرقة اليوم، كانت متّصلة ببعضها بعضاً في غابة واحدة، إلى أن وفد الإنجليز إلى الشرق، وبنوا سكة الحديد من تركيا شمالاً، حتى سيناء جنوباً، واستخدموا أشجار غابات لبنان الصلبة كركائز لخطوط السكك الحديدية التي يستند الخط إليها، ولا تزال بقاياها ظاهرة في ما تبقّى من السكك الحديدية.
لقد احتاج بناء السكة الحديدية إلى تقطيع غابات لبنان حتى أصبحت قممه شبه جرداء، وأقام الإنجليز في القموعة، حيث أكبر غابات الشرق الأوسط، مناشير آلية للحطب، فكان يتم تقطيع الجذوع، فيسهل نقلها إلى الساحل عبر ناقلات زراعية. أما اليوم، ورغم أن الأشجار باتت شحيحة، ورغم أن تقطيعها هو من الموانع لو قيّض للسلطات ممارسة دورها، والمازوت (الديزل) ارتفعت أسعاره بشكل كبير، فإن المواطن واقع بين مطرقة الغلاء، وسندان الاعتداء على البيئة بتقطيع الأشجار الممنوع.
وفي هذا السياق، يقول المنسّق الإعلامي للمرصد البيئي التابع للحركة البيئية اللبنانية، وفيق هوّاري «منذ أكثر من عامين، تتعرض الغابات والأحراج في لبنان عموماً، ومنطقة عكار خصوصاً، إلى قطع أشجار مختلفة، خصوصاً المعمّرة منها، بشكل غير قانوني ومؤثر في الطبيعة، ويحمل خطراً دائماً على الطبيعة، والإنسان لاحقاً.
في البداية كان المبرر أن الناس بحاجة إلى حطب للتدفئة بسبب ارتفاع سعر المازوت، لكن مجموعات من المواطنين استغلت الموضوع، وبدأت عمليات القطع العشوائي لبيع الحطب في مناطق مختلفة، وبأسعار مرتفعة تجني من وراء ذلك ثروات ضخمة».
قطع الأشجار بحجّة ارتفاع أسعار الوقود في لبنان
ارتفاع سعر الوقود بشكل جنوني كان مبرراً للمواطنين للاعتداء على الغابات، فسعر قنينة الغاز للتدفئة تجاوزت المليون ليرة لبنانية، وصفيحة المازوت بلغ مليوناً وسبعمئة وخمسين ألف ليرة لبنانية للصفيحة الواحدة، أي أن صفيحتين، فقط، كفيلتان باستهلاك راتب الموظف. وما زاد الطين بلّة، أنه في ظلّ انفلات عمليات القطع بين مجموعات وعصابات متاجرة بالغابات، بدأت أعداد كبيرة من المواطنين تتخذ حجّة الخوف من سرقة أشجارهم لتبرير قطعها.
دعائم سقف قديم من أغصان شجر اللزاب
أسلوب آخر لتقطيع الأشجار اعتمده المواطنون، وذلك بالحصول على أذونات «تشحيل» من وزارة الزراعة، فكان ذلك مدخلاً لقطع الأشجار تحت غطاء «التشحيل». يقول هواري إن «وزارة الزراعة، وبعض البلديات، كانت تعطي أذوناً للتشحيل من دون مراقبة، وكانت هذه الأذون مدخلاً للاعتداء على الغابات، والأحراج، حتى بلغت نسبة المساحات التي استهدفتها عمليات القطع حتى اللحظة، نحو 25في المئة من المساحات الحرجية».
ويضيف هواري أن «من يقوم بعمليات القطع الممنوع هم مجموعات من أهالي البلدات، يحظون بحماية سياسية وأمنية محلية، ويستغلّون ضعف القوى الأمنية، أو تواطؤ بعضها للاستمرار في عمليات القطع، كما أن تراخي القضاء في معالجة الموضوع دفع هذه المجموعات إلى استباحة الغابات بطريقة غير قانونية». وهكذا، وفي ظل استمرار غياب السلطات، والرقابة، وارتفاع أسعار الوقود توازياً مع انهيار القدرة الشرائية للمواطنين، تحت ضغط الأزمة المتفاقمة، يرتقب أن تستمر الغابات عرضة للقطع، والاعتداء.
حبوب كبس النشارة
وقود «حبوب النشارة»
بعض أزمة الوقود استطاع سكان الغرب حلّه، خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بتصنيع وقود من فضلات الطبيعة، حيث يتمّ جمع فضلات الأشجار وضغطها تحت ضغط مرتفع، وتُعرف بالـ«الباليت» (Pellet)، لكنّ احتكار تجارة النفط منع وصول هذا الصنف من الوقود إلى لبنان. ولا تزال هذه المادة وقوداً يستخدم للتدفئة في معظم دول الغرب، والدول الباردة، ونشأت لتصنيعه شركات كبرى وضخمة.
مدفأة للتدفئة المركزية تشتعل بحبوب كبس النشارة
أحد الناشطين البيئيين في لبنان، فايز الشاعر، استورد من الصين أجهزة ضغط النشارة، وفضلات الطبيعة، وبات يُصنّع منها، ويبيعها للمواطنين بأسعار رخيصة مقارنة مع الحطب والمازوت.
يقول الشاعر إن عملية تفريغ و«تشحيل» الأشجار أمر لا مفرّ منه، وهو مفيد للزراعة والغابات، حيث يتم قطع الغصن الصغير، ويُترك الغصن الكبير، فتعاود الشجرة تكوين ذاتها، ويُستفاد من الأغصان «المُشَحّلة»، وبدلاً من إحراقها، كما اعتاد عليه المزارعون، تتحول الأغصان إلى وقود للتدفئة.
عندما نحصل على الأغصان من «التشحيل»، يمكننا تحويلها إلى وقود بطحن الأغصان، وضغطها، وبالتالي يمكن أن «نشحّل» الغابات سنوياً، فتبقى نظيفة محميّة من الاحتراق، كما يقول الشاعر مضيفاً إن «البديل الرائج راهناً هو قطع الأشجار، والثروة الحرجية باتت مهدّدة، ولبنان الأخضر على شفير التصحّر».
اليوم البديل الوحيد لتقطيع الأشجار، ولتأمين وقود بأسعار محمولة، هو «حبوب كبس النشارة»، ويفيد الشاعر بأنه «علاوة على توفير الوقود بسعر محمول، يؤمّن الوقود الجديد مادة نظيفة، غير ملوّثة للبيئة كالمازوت، ولا تحتاج لأمكنة واسعة للتخزين كالحطب، ولا تتسبب بأوساخ مختلفة كبقية المواد».
مشغل حبوب كبس النشارة
يطلِق الشاعر عربتين مزوّدتين بمعدات طحن، تجوبان الغابات، وتجمعان الفضلات والمهملات الطبيعية، ويتم طحنها حيث توجد، قبل نقلها إلى مشغله الذي باتت تتكوم فيه أكداس المادة الأولية تمهيداً لضغطها، كما يطلب منه بعض المزارعين الذين قاموا بتقليم أشجارهم، أخذ الفضلات ومعالجتها، ثم ضغطها لتتحوّل إلى حبوب وقود.
عملية جديدة من نوعها، خلقت أجواء عمل جديدة، وإنتاج جديد، وتعاون مع المواطنين، لم يسبق أن شهدته الأرياف التي باتت أمام حالة جديدة من وقود، وتعاون، وعمل، وإنتاج قابل للتوسّع، وتوظيف طاقات كبيرة، ومتى انتشرت الطريقة، باتت عملية استثمار اقتصادي كبير، يؤمّن فرص عمل، من جهة، ووقوداً رخيصاً من جهة ثانية.
اقرأ أيضاً: موسم الثلوج لا يغيب عن لبنان على الرغم من الصعوبات!!
* بيروت: نعمة سونيا