عن المهاجرين والحرب وقاعات المحاكم.. 3 أفلام درامية جديدة
ارتأينا هذا الأسبوع تقديم تحليل نقدي لثلاثة من أبرز الأفلام الجديدة التي عرضت مؤخرا في السينما أو المنصات:
The Goldman's Case.. - دراما محاكم حول وقائع حقيقية في فرنسا
مثل «تشريح سقوط» (Anatomy of a Fall) لجوستين ترييه و«سان أومير» (Saint Omer) لأليس ديوب، تدور أحداث هذا الفيلم في قاعة المحكمة. لكن باستثناء مقدّمة لشاب يركض للحاق بموعد مضروب مع المحامي في مكتبه، لا توجد أي مشاهد خارجية على الإطلاق.
القضية الماثلة هي تهمة موجّهة لرجل اسمه بيير غولدمان، متهم بسرقات عدّة، وبقتل صيدلي وامرأة في إحدى سرقاته، لجانب مجموعة أخرى من السرقات الأخرى، كلها معروضة علينا عبر مقدّمة مكتوبة، ثم من خلال المرافعات. غولدمان، الذي يمثل هنا أمام محكمة استئناف بعدما كان صدر عليه حكم سابق، يعترف بكل السرقات باستثناء السرقة التي تم فيها قتل الصيدليين.
حول هذه النقطة وخلفيات المجرم، ومع وجود شهود لديهم أقوال توفر المزيد من المعلومات حول هذه القضية، يسرد الفيلم وقائع المحكمة على نحو لا يخلو من التشويق الناتج عن تعاون جيد، وخطة عمل ناجحة، تجمع بين الإخراج والتوليف.
تقع الأحداث، وهي فعلية، سنة 1975، وتمتلأ القاعة بمناصرين للمتهم (معظمهم من دينه) الذين يقاطعون القاضي مردّدين «غولدمان بريء»، مرات عدّة، حتى قبل صدور الحكم ببراءته من تهمة القتل، وسجنه اثنتي عشرة سنة عقوبة للسرقات التي قام بها. يستعين القاضي (ستيفن غوران- تيليه) بكتاب سيرة وضعه المتهم خلال فترة سجنه السابقة عنوانه «ذكريات يهودي بولندي ولد في فرنسا»، وبشهادة زوجته السابقة، وطبيبة نفسية، وبعض أصدقاء الأمس، وبينهم من تعرّف غولدمان إليه عندما انضم إلى جماعات ثورية في كوبا وفنزويلا قبل عودته لباريس ليمتهن السرقة.
سيتهم غولدمان الشرطة الفرنسية كقوّة عنصرية. حين يقف محامي الدفاع ليقول إن موكله يعني «بعض» رجال الشرطة، يرد غولدمان «بل كل رجال الشرطة». على ذلك المحاكمة ليست حول هؤلاء، بل حول غولدمان المحاط بذلك الجمهور الذي لا نعرفه سوى من ملامحه يصرخ مطالباً ببراءته.
Six Feet Above.. دراما اجتماعية حول الجيل الثاني من المهاجرين
يوفر المخرج الجزائري- الفرنسي كريم بن صالح في «ما فوق الضريح»، فيلماً مغايراً للمعتاد بالنسبة إلى تلك الأعمال التي تتناول موضوع المهاجرين العرب في باريس. بطله سفيان (حمزة مزياني) شاب يغرف، في مطلع الفيلم، مما هو متاح من لهو الشباب، حفلات ورقص ومخدّرات. ثم تنسحب الكاميرا من مشهد البداية إلى الأجواء العائلية التي تحيط بذلك الشاب.
والد سفيان دبلوماسي جزائري سيتقاعد قريباً، والسفارة ستقيم حفلاً لذلك. لكن سفيان نفسه غير سعيد لأنه مهدد بالطرد من فرنسا، لكونه توقف عن متابعة الدراسة (فلم يعد يحمل إقامة طالب)، وليس لديه عمل يربطه. حين يجد العمل مساعداً لحانوتي يرفض هذا توفير عقد عمل له، ما يجعل التهديد بطرده من فرنسا أمراً محتملاً في أي لحظة.
يتابع الفيلم بطله بين تموّجات حالته. يتعرّف إلى فتاة فرنسية شابة تبدو مهتمّة به، لكنه لا يُجيد الحفاظ على هذه العلاقة بسهولة، وعندما يترك عمله عند الحانوتي الأول، ويلتحق بحانوتي آخر، يرشده هذا إلى ضرورة فهم الإسلام، والتصرّف بأحكامه، وشرائعه. في وسط هذه المتغيّرات لا يبدو أن سفيان آيل إلى تحديد مسيرته، والفيلم ينتهي به وهو يغني لوالده (أو يحاول ذلك بكلمات غير متوازنة) في حفل السفارة المرتقب.
يعكس الممثل الشخصية التي يؤديها على نحو مقبول، لكنه لا ينقل الشعور الذي يعايشه في مراحل شتّى جيداً إلى الجمهور. في الجزء الأخير من الفيلم يحصل سفيان على العقد الذي سيحميه من الطرد، وها هو يقف ليغني (لم يُعرف عنه ذلك) تمهيداً لإعادة المياه لمجاريها بينه وبين والده. «ما فوق الضريح» ما زال يقفز فوق المشاكل التي يتطرّق إليها، من دون توفير مبرراتها.
في خانة الإخراج تتبدّى مهارة المخرج كريم بن صالح على نحو أفضل. يعمد إلى فيلم فرنسي المعالجة ضمن الأسلوب السردي السائد، حيث تمرّ الأحداث بإيقاع متوال. لا تفوت المخرج تفاصيل يركز الكاميرا عليها (مثل مشاهد غسل الميّت). لا يرتفع الفيلم صوب مستوى فني يتمناه الناقد له، لكن ما يوفره صياغة فنية سليمة كدراية وتنفيذ.
The Girl with a Needle.. دراما داكنة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى
يختار المخرج ماغنوسفون هورن الزمن الذي يريد سرد حكايته فيه، والمكان الذي ستقع فيه الأحداث، بعناية موازية للعناية التي يوفّرها لكيفية ما سيقوم بتقديمه. «الفتاة ذات الإبرة» دراما آسرة تراجيدياً، محلّاة بأسلوب عمل فني جيد، ورؤية هادفة للحديث عن المرأة في بعض أسوأ ظروفها.
إنها نهاية الحرب العالمية الأولى، والمدينة هي كوبنهاغن، والبيئة هي تلك التي تعاني الفقر والبؤس. الضحية الماثلة، من دون أن تكون الوحيدة، هي كارولين (فك كارمن سون) التي تواجه ظروفاً أصعب مما تستطيع تحمّله، لكنها- ولعدم وجود بديل- عليها أن تواجه تلك الظروف وتتألم.
زوجها غائب منذ مطلع الحرب، ولا تستطيع قبض معونة حكومية من دون إثبات إنه مات بالفعل. في مطلع الفيلم تحاول إقناع صاحبة الغرفة التي تشغلها بإبقائها فيها، لكنها لم تدفع إيجاراً منذ أسابيع طويلة ووضعها يزداد سوءاً عندما تعاشر صاحب المصنع الذي تعمل فيه، وتحبل منه.
هذا يتخلّى عنها في الوقت الذي يعود فيه زوجها من تلك الحرب، وقد عانى من ويلاتها. ليس لديه الكثير مما يقوله لزوجته حول لماذا لم يخبرها بأنه ما زال حياً (يستخدم الفيلم عدم الإفصاح كعذر لتجاوز عقدة لا يراها ضرورية)، تقرر كارولين أنها لا تريده في حياتها. قرار لا يصمد طويلاً لكون البؤس هنا هو ما يجمع شتات الضحايا.
الفيلم قشيب في الشكل. جماليّاته نابعة من دُكنة صورته ودُكنة موضوعه معاً. إنه ليس تراجيديا موجهّة لاستعطاف المُشاهد، بل دراما مأخوذة من أحداث واقعية عالجها المخرج ببعض الإيحاء من السينما التعبيرية الألمانية، ما يجعله يبدو، لولا أنه بالفعل من إنتاج زمننا الحالي، أشبه بواحد من تلك الكلاسيكيات التي تصف الناس والأمكنة بدكنة مناسبة لزمن تصفه إحدى الشخصيات في الفيلم بقولها «العالم مكان فظيع». حتى المرأة التي توجه هذه العبارة لكارولين (وهي المرأة التي استقبلت مولودها)، تكشف عن شخصية تقتنص الفرص، وتضع مصلحتها فوق أي مصلحة أخرى حتى ولو كانت الضحية ماثلة أمامها كحال كارولين.