فيلم «البؤساء»
ليس هناك إحصاء فعلي لعدد المرّات التي استعارت السينما أعمالاً روائية وحوّلتها إلى أفلام أصبح الكثير منها من أبرز ما عرفته من إنتاجات. نتحدث عن أفلام تمتد عميقاً في التاريخ، كما الحال مع ما تم استلهامه من روايات «ألف ليلة وليلة»، والنسخ الأولى من «سيرانو دي برجيراك»، و«هاملت»، و«أليس في ووندرلاند»، و«كابينة العم توم»، و«دراكولا»، و«أحدب نوتردام»، و«البؤساء»، والعديد سواها.
من فيلم «سيد الخواتم»
منذ بداياتها عوّدت السينما نفسها على اللجوء إلى المصادر الأدبية لاقتباسها. العادة أصبحت شأناً تقليدياً وطبيعياً نتج عنها مئات الأفلام بمختلف مستوياتها.
بعض سبب الانتشار يعود إلى حقيقة أن النص الروائي يأتي، في معظم الحالات، متكامل العناصر، ويحفل بالنوعية التي تجذب جمهور الكتاب الكبير و-لاحقاً- جمهور السينما. حين الاقتباس، إذا ما كان الاقتباس جيداً، يحافظ كاتب السيناريو على روح النص، وأحياناً على الكثير من أحداثه، لكنه يُضيف إليه العوامل التي لا غنى عنها للتخلص من إنشائيات الوصف، واعتماد بصريات المشاهد، واستبدال ما يرد في شكل وصف إلى سلسلة من المفارقات التي كثيراً ما تختلف عن النص الأصلي. وإذا ما كان الاقتباس جيداً، فإن ذلك سيفيد الفيلم، من دون أن يؤذي النص.
هذا لا يعني إن كل اقتباس كان لزاماً عليه الالتصاق العضوي بالنص الأدبي. كذلك لا يعني أن حرية الفيلم في ترجمة النص الأدبي أمر مستنكر. هناك نصوص أمينة جيدة، ونصوص أمينة لدرجة الإسهاب والبلادة.
هناك خروج عن النص الروائي يجعل المرء يترحم على ذلك النص، وآخر يجعل المشاهد يقدّر كثيراً ما قام به صانعو الفيلم لأجل بث روح فنية وبصرية كان النص الأصلي بحاجة إليها. وهناك العديد من النماذج التي تؤكد ذلك.
فيلم «جاكي براون»
مقارنات ناجحة بين الرواية والفيلم
في أفضل الأحوال كثيراً ما يأتي الفيلم جيداً بالمستوى نفسه مع الرواية. علينا هنا أن نذكر، كمثال، فيلم كونتِن تارانتينو «جاكي براون» (1997) المقتبس عن رواية «روم بَنش» (Rum Punch)، كما وضعها المؤلف البوليسي إلمور ليونارد سنة 1992. هو الفيلم الوحيد الذي اقتبسه تارانتينو عن رواية تميّزت بحبكة معقّدة، وكثيرة التفاصيل، نقلها تارنتينو إلى الشاشة على النحو نفسه، مكتفياً ببعض التعديلات، ومن بينها نقل البطولة إلى امرأة أفرو-أمريكية عوض إبقائها بيضاء.
هناك مناسبة أخرى ارتفع فيها مستوى الفيلم عن مستوى الرواية، هي تلك التي قام فيها ستانلي كوبريك، ودايان جونسون باقتباس رواية ستيفن كينغ «ذا شاينينغ».
الرواية، بحد ذاتها، مجال آخر من مجالات الكاتب كينغ لتناول أحداث رعب ناتجة عن أرواح شريرة، وقدرات غرائبية غير مفسّرة. من البداية قرر كوبريك أن من حقه، طالما سيخرج الفيلم بنفسه، تغيير ما لا يراه «كوبريكياً». وما لم يره هو الالتزام بحكاية وجدها عادية تصلح لفيلم رعب بسيط. كوبريك استغنى عن تلك الغرائبيات المتكاثرة وحصر ما أراده منها في شخصية الطفل الذي تتراءى له أحداث مستقبلية، ووالده الذي يفقد عقله فتتراءى أحداث غير واقعية يعتقد أنها تحدث معه.
فيلم «دكتور ستراجنلوف»
بين الرواية والفيلم.. اختلافات ضاع فيها الأصل
لم يرض كينغ عن هذا الوضع، لكن كوبريك لم يبال سابقاً عندما حقق «لوليتا» سنة 1962 عن رواية لڤلاديمير نابوكوڤ (المنشورة سنة 1955)، مستخلصاً منها الفكرة، ومحافظاً على أبعادها العاطفية الشخصية، في الوقت الذي استبعد فيه السرد الزمني للأحداث، والتتابع الوارد في الرواية أصلاً.
كوبريك غيّر الكثير من كل فيلم اعتمده عن رواية (أي معظم أفلامه)، بما فيها «كلوكوورك أورانج»، و«دكتور ستراجنلوف». لكن التحدي الأهم الذي واجه كوبريك، وقد اشتهر عنه تعلقه بالتفاصيل وهوسه بالكمال، كان نقل رواية وليام ماكبيس تشاكراي «باري ليندن» المنشورة سنة 1844 إلى فيلمه الذي أنجزه سنة 1975. بداية، نشر تشاكراي روايته كمسلسل من حلقات عدة. وما قام به كوبريك هو إيجازها إلى كيان فيلم واحد يسرد حكاية ذلك الشاب الذي استغل كل ما استطاع استغلاله، من مفارقات وشخصيات، للانتقال من الفقر إلى الثراء قبل أن يخسر معظم ما حققه في النهاية.
فيلم «القيامة الآن»
لابدّ من ذكر نموذج ثالث لأفلام تجاوزت طبيعة الروايات التي قامت بنقلها. هذا يتمثّل في فيلم فرانسيس فورد كوبولا «القيامة الآن»، المقتبس عن رواية لجوزف كونراد، حوّل المخرج من موقعها (أدغال أفريقية) إلى أحداث فيتنامية، وأطاح بالعديد من أحداثها، وخرج منتصراً على نحو لم يكن متوقعاً.