وهذا السؤال ليس جديداً، فمنذ إقامتي في الغرب اعتدت أن أجد نفسي في الشارع أمام أشخاص ملتبسين، لا أدري هل هذا الذي أراه رجل أم امرأة، الأمر لا يتعلّق بالثياب، فقد اعتدنا منذ ربع قرن على موضة «اليوني سيكس».
أي تلك القمصان والسراويل والمعاطف ذات الجنس الموّحد التي تصلح للشبّان والشابات، الموضوع هنا أن يكون الذي تراه، أو التي تراها، رجلاً كامل الملامح والعضلات، ملتحياً لكنه يرتدي فستاناً وحذاء بكعب عال ويضع على وجهه زينة النساء.
في البداية كنت أستغرب وأنصدم وأشعر بالاستهجان، ثم اعتدت المنظر لأنه لم يكن نادراً، وأعرف أن اليوم في بلادنا العربيّة يرى المرء أموراً مشابهة، والصور التي تنشرها بعض المواقع العراقيّة، مثلاً، تقول لي إن بلدي لم يعد ذاك الذي أعرف وفيه نشأت، هناك أولاد بهيئة بنات والعكس بالعكس.
وصل الأمر في أوروبا إلى التعليم وأساليب التربية. يقولون للتلميذ في المدرسة أن الجنس مسألة اختيارية، لكنني لن أناقش هذه القضيّة في هذه الصفحة لأنها تستحق بحثاً أوسع.
ما أود نقله لكم هو ما حدث معي قبل أيام حين كنت جالسة في أحد مقاهي الرصيف، مقابل قصر بلدية باريس، إن الباريسيين يخرجون عن بكرة أبيهم إلى المقاهي المكشوفة حالما سطع شعاع شمس واحد.
من وسط زحام المارة، طلعت سيدة ذات شعر أشقر وزينة فاقعة، وراحت تمرّ على الطاولات وتلقي بالتحيّة ثم تترك على كل طاولة بطاقة ملونة هي إعلان لعرض مسرحي يقام في الليلة نفسها، عنوان العرض: «أنا أبوك». وتحت العنوان الكبير واحد أصغر يأتي على سبيل الاستدراك: «وأبدو مثل أمك».
نظرت إلى البطاقة فوجدتها تحمل صورة السيدة ذاتها، إنها إذاً بطلة المسرحيّة، وهي تقوم بنفسها بالدعاية للعرض، بشعرها الذهبي وشفتيها المصبوغتين بالأحمر ورموشها الاصطناعية.
لكن الملفت في الأمر أنها كانت تتحدث بصوت خشن أجشّ... صوت رجل، وفهمت كما فهم غيري من رواد المقهى، أنها من النوع الذي يسمونه هنا «ترافستي»، أي متحوّلة.
لم يكن شكلها ما أثار تساؤلي، ولا نزولها إلى الشارع في عزِّ النهار، بل استقبال الموجودين لها، أو بالأحرى له. كانوا يبتسمون ويرحّبون ويتناولون منها البطاقات بكل أريحيّة ويشكرونها عليها، ومنهم من راح يتبادل معها، معه، أحاديث عابرة.
قبل سنوات، ما كان الفرنسي يلتقي بهذا الجنس المزدوج إلا في «كاباريهات» معيّنة وشاشات بعض الأفلام، وفي حال نزول أحدهم أو إحداهن إلى الشارع فإنه يتعرّض للسخرية بل وحتى الشتيمة.
لكنه اليوم بشر يمرّ بين الناس مرور الكرام، تراه في المقهى والمترو والسوبرماركت. أو قد يكون جاراً لك في العمارة، يسكن الشقة المقابلة، هو ما اكتشفته في الطابق الذي أقيم فيه.
شخصياً، تطبّعت بطباع القوم، فمن عاشرهم أربعين عاماً صار مثلهم، وبهذا فإن لا مشكلة لي مع المتحوّلين والمتحوّلات؛ طالما أنهم لا يعتدون على الغير.
لكن المشكلة جاءت من حفيدي، فقد كان معي حين جمعنا المصعد مع السيدة المتحولة التي لاطفته، بصوت خشن، وأطرت أناقته، ومن جانبي طلبت منه أن يقول لها: «ميرسي مدام»، لكن الصغير صاح بكل براءة: «ألا ترين يا جدتي أنه مسيو...؟».