الرقابة المالية في فرنسا تنبّه القصر الرئاسي.. أين ينفق ماكرون وبريجيت ملايين "الإليزيه"؟
مسمار آخر انغرز في قدم الرئيس الفرنسي وهو في عز نشوته بتنظيم دورة باريس الأولمبية الحالية، إذ بعد فضيحة اللوحات الراقصة لحفل الافتتاح التي أثارت اعتراض الكنيسة والمحافظين؛ لتضمنها مشاهد غير لائقة، ها هو إيمانويل ماكرون يواجه فضيحة جديدة.
تتمثل في تقرير صادر عن دائرة الرقابة المالية يلفت نظره إلى تزايد مصروفاته خلال العام الماضي، حيث بلغت حداً غير مسبوق، وما دام الأمر يتعلق بسفرات الرئيس والمآدب الفخمة التي يقيمها لضيوفه، فإن زوجته بريجيت مشمولة بلفت النظر باعتبارها سيدة القصر والمشرفة على ما يدور فيه.
أين ينفق ماكرون وبريجيت ملايين «الإليزيه»؟
في تقرير للرقابة المالية، تمكنت وكالة الأنباء الفرنسية من الحصول على نسخة منه، دعا ديوان المحاسبة الرئيس إلى «بذل مزيد من الجهد» لترشيد نفقاته الخاصة بالتنقلات وحفلات الاستقبال التي تقام في القصر الرئاسي.
إن من حق ماكرون أن ينفق وفق ما يراه مناسباً لموقعه ولمكانة فرنسا في العالم، فهو لن يدعو ملك إسبانيا، مثلاً، على صحن أومليت بالنقانق، مع هذا كشف التقرير أن فاتورة الدعوات والمآدب الرئاسية والسفرات الخارجية ارتفعت بشكل ملحوظ خلال العام الماضي حيث بلغت 21 مليون يورو مقابل 13 مليوناً في العام الأسبق.
بهذا فإن ميزانية «الإليزيه» الإجمالية خلال 2023 زادت على 125 مليون يورو، بزيادة 8,3 مليون يورو عما هو مخصص لها، ولاحظت الرقابة المالية أن مع هذه الزيادة يمكن أن يضطر القصر إلى طلب مبالغ إضافية من خزينة الدولة.
لماذا زادت مصاريف الرئيس الفرنسي وزوجته؟
هل هو التبذير أم الظرف العالمي الخاص؟
فبعد أزمة «كوفيد» والحملة الانتخابية لعام 2022، قام الرئيس الفرنسي بعدة زيارات رسمية كبرى إلى كل من الصين وأفريقيا واليابان ومنغوليا والهند وبنغلاديش، وفي كل مرة كان الوفد المرافق له يضم عدداً كبيراً من الوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال وحتى الفنانين.
أما دعوات الاستقبال والمآدب فقد ارتفعت نفقاتها بسبب قرار السيدة الأولى تجديد المطابخ الكبيرة للقصر الرئاسي واللجوء إلى الاستعانة بخدمات موردّي الطعام من الخارج، وطبعاً فإن الأطباق المطلوبة ستأتي من أرقى المطاعم.
على سبيل المثال، بلغت نفقات عشاء الدولة الذي أقامه ماكرون في قصر «فيرساي» على شرف ملك بريطانيا تشارلز الثالث 475 ألف يورو، كما بلغت نفقات العشاء الذي أقامه في «اللوفر» على شرف رئيس وزراء الهند نادرا مودي 412 ألف يورو، وجرى نقل المأدبتين إلى خارج «الإليزيه» نظراً للتحديثات التي كانت جارية في مطابخ القصر.
ما كان يمكن السكوت وتجاهل التقرير لاسيما وأنه احتل صدارة نشرات الأخبار؛ لذلك سارعت مصادر الرئاسة إلى الرد بالقول: إنها ستأخذ بعين الاعتبار ملاحظات الرقابة المالية -أي ديوان المحاسبة- وتعمل على تحسين إدارتها وأنظمتها الداخلية لتقليل النفقات.
يمكن أن نفهم أن رئيساً شاباً آتياً من أوساط المصارف لن يشابه في مصاريفه ومستوى معيشته رئيساً تاريخياً مثل الجنرال ديجول الذي كان يدفع مصاريفه الخاصة ومصاريف زوجته من جيبه.
كما أن ماكرون ليس فرانسوا هولاند، الرئيس الاشتراكي السابق، الذي وضع خطة لضبط الهدر الحكومي وتقليص نفقات القصر الرئاسي، كان رأي هولاند أن «الإليزيه» يعيش على النمط الذي كانت عليه قصور ملوك فرنسا السابقين الذين اشتهروا بالبذخ والتمتع بكل متع الحياة.
نفقات مهولة في الإليزيه
تفوق نفقات مقر رؤساء فرنسا نفقات البيت الأبيض في واشنطن، مقر رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، فبعد دخول ساركوزي إلى القصر رئيساً منتخباً ارتفعت ميزانية «الإليزيه» بنسبة تزيد على 8% حتى بلغت 113 مليون يورو في السنة، وهو أمر أثار حفيظة عدد من نواب البرلمان الذين اعترضوا على تبذير القصر الرئاسي في وقت تشكو فيه الخزانة من ثقل الديون.
وللعلم، فقد حاول الرئيس السابق شد الأحزمة على بعض البطون حين قرر إلغاء الحفل السنوي الذي يقام في حدائق القصر بمناسبة اليوم الوطني ويدعى إليه الخاصة والمشاهير والدبلوماسيون وذوو المناصب العليا وفئات مختارة من العامة، لكن ساركوزي، في المقابل، رفع عدد العاملين في القصر من 945 موظفاً وعاملاً في 2006 إلى 1045 عاملاً في خريف 2007، سنة تسلمه الرئاسة.
يتحرك الساكنون والعاملون في القصر فوق مساحة تزيد على 11 ألف متر مربع عدا الحدائق، حيثما يديروا رؤوسهم يجدوا كنوزاً من التماثيل والثريات ولوحات عصر النهضة والأثاث المصنوع وفق طراز لويس الخامس عشر أو السادس عشر والسجاد المنسوج في مشاغل «سافونري» وجداريات قماشية من تطريز ورشة «جوبلان» الشهيرة.
عندما تقام مأدبة رسمية أو يعقد مؤتمر صحافي في القصر فإن العاملين في طاقم الإدارة يتوزعون في الأرجاء بشكل مستتر للتأكد من أن أحداً من المدعوين لم يتسبب في ضرر للموجودات الثمينة والتاريخية.
جاء في تحقيق عرضه التلفزيون الفرنسي، وأشرنا إليه في «كل الأسرة» في حينه، أن العمل في «الإليزيه» يتوزع على مجموعة طواقم، فالطاقم المسؤول عن الجدران والأرضيات، مثلاً، يتألف من 4 عمال ماهرين، مهمتهم تعليق الستائر والاعتناء بورق الحائط وخياطة الوسائد للصالونات المختلفة وإعداد قاعة المؤتمرات الصحافية وتحضير الطلبات للفائف والأقمشة المخملية التي يحتاج إليها القصر.
هناك 5 عاملات مسؤولات عن المفارش والشراشف والبياضات، وهن يغطسن طيلة النهار في أنهار من القماش الأبيض والسماوي والأحمر والأزرق، كلها مطرزة بالأحرف الأولى لكبار المصممين، تستغرق عمليات الكي والفرد والطي باليد ساعات طويلة كل يوم، يمتلك القصر 22 ألف قطعة تتراوح ما بين الصدرية ومفرش المائدة ومنديل السفرة والمماسح، عدا الشراشف وأغطية الوسائد والمناشف وبرانس الاستحمام.
أما الأزهار الطبيعية الموزعة في الصالات والحجرات فمهمة العناية بها وبتجديدها موكولة إلى 3 عاملين يعرفون مواسم النبات والفصل الذي تزهر فيه كل شجرة أو نبتة، يحرص الثلاثي على انسجام ألوان الأزهار في المزهريات الكبيرة والصغيرة ومراعاة اختيار تلك الأنواع التي لا تسبب حساسية لأهل القصر أو ضيوفهم.
طبعاً فإن التحضير لعشاء رسمي يحضره الضيوف من الرؤساء أو الملوك الأجانب هو معضلة في حد ذاته، لا يتقن التعامل معها سوى فريق مدرب وخبير.
كيف تعد موائد الإليزيه، وماذا عليها؟
تشرف المسؤولة عن كهف الأنبذة وقناني المشروبات على مخزن يحتوي على أكثر من 12 ألف قطعة، وهي تعرف موضع كل قنينة حتى وهي مغمضة العينين؛ لأنها وصلت إلى منصبها بعد خبرة وتدريب طويلين، تستغرق عملية نصب طاولة عشاء رئاسي يحضره 250 مدعواً وقتاً لا يقل عن 4 ساعات، يدور حول الطاولة عاملات وعمال وسفرجية يكوون المفارش لإزالة آثار الطيات فيها.
كما يقيسون المسافة بين كل صحن وآخر بالمسطرة، وكذلك المسافات بين الأقداح ذات الاستخدامات المختلفة وبينها وبين أدوات الأكل، وتحتوي خزائن «الإليزيه» على 28 ألف قطعة من الفضيات الخاصة بأدوات المائدة، ومعها 6 آلاف قطعة إضافية من الشمعدانات والأواني المنقوشة باليد، بينها قطع فنية يصل سعر كل منها إلى 4 آلاف يورو وتعود إلى زمن أباطرة فرنسا القدماء.
وكل قطعة ممهورة بنقش «الجمهورية الفرنسية»، وطبعاً لكل رئيس، أو بالأحرى لكل سيدة أولى، ذوق خاص في اختيار أطقم السفرة، وكان ساركوزي وكارلا يفضلان طقماً مؤلفاً من 400 قطعة من البورسلين المصنوع في ورشات الخزف في «سيفر»، وتحمل كل قطعة صورة طائر مختلف عن الآخر.
وهناك حكايات كثيرة تحتفظ بها ذاكرات الرؤساء ومساعديهم ومسؤولي البروتوكول عن الضيوف الذين مروا بمائدة القصر الفرنسي، فقد أبدى الرئيس نيلسون مانديلا إعجابه بطبق من الفضة يعلوه صحن من الخزف الأزرق الداكن فطلب صنع واحد منه لقصره في جنوب أفريقيا، يوم كان في الحكم، أما الكؤوس فهي من كريستال «باكاراه» وتُغسل كلها باليد وباستعمال فرشاة من وبر الحرير.
وليس وارداً وضع تحف المائدة في الغسالات الكهربائية، ولإنجاز غسيل الصحون لا بد من اجتماع 4 عمال مشهورين باليقظة والحرص والرهافة، يقفون بالساعات أمام الأحواض، يقابلهم 8 آخرون لتنشيف الصحون المغسولة.
وهو نشاط يستغرق ما يتبقى من ساعات الليل بعد انفضاض العشاء ومغادرة الضيوف، وعادة ما يتصور هؤلاء أن الرئيس وزوجته سيخلدان إلى غرفة نومهما في القصر بعد عناء الضيافة، وهذا ما كان يفعله الرئيس شيراك وقرينته برناديت، أما ميتران فكان يودع زوجته دانييل لتذهب للمبيت في بيتهما الشخصي في حي سان جيرمان، بينما يذهب هو ليمضي الليل، غالباً في شقة عشيقته المطلة على الضفة الشرقية من السين.
وكذلك كان يفعل ساركوزي حيث يركب السيارة بعد مغادرة آخر الضيوف ويذهب مع زوجته كارلا ليناما في المنزل الذي تملكه في باريس، أما الرئيس هولاند فلم تكن شريكة حياته فاليري تحبذ السكن في القصر الرئاسي، بل في شقتهما في الدائرة الخامسة عشرة من العاصمة، لكن الشقة تقع في شارع ضيق يصعب توفير الحماية له عدا عن أن من المستحيل مراقبة كل الجيران الساكنين في العمارة والتضييق على حريتهم.
وفي كل الأحوال فهي قد غادرت القصر غاضبة، أو مطرودة، بعد اكتشاف خيانته لها مع الممثلة جولي جاييه، التي تزوجها فيما بعد.
وإذا كان السكان الرسميون للقصر يتركونه ليبيتوا في بيوتهم الخاصة، فإن أطقم الحراسة والنظافة والإدارة تبيت في غرف وأجنحة مخصصة لهم في «الإليزيه»، قد فتح الحرس الجمهوري أبوابه للنساء منذ عام 1999، حيث يتكون الحرس من 487 حصاناً يقودها عسكريون وعسكريات يرتدون زياً خاصاً بهم مع خوذة تعلوها ريشة حمراء.
ينتظر الفرنسيون أو السياح الموعد السنوي للاحتفال بيوم التراث الوطني لكي يدخلوا «الإليزيه» ويتفرجوا على ما فيه من تحف وحيطان تنغلق آذانها على أسرارها، ففي ذلك اليوم تفتح قصور الدولة أبوابها للزوار، فيقفون في الطوابير ويتجمعون أمام الرقم 55 من شارع فوبور سانت هونوريه في باريس، منتظرين دورهم للدخول ومعاينة المكتب الرئاسي ومخادع النوم.
ويتألف مكتب الرئيس من صالون ذهبي للاستقبال يغمره الضوء من نوافذ كبيرة، وفي أحد أرجائه طاولة الكتابة والإدارة التي يختارها كل رئيس حسب ذوقه، فقد كان مكتب شيراك من الطراز الفرنسي التاريخي، أما مكتب ميتران وساركوزي فمن الأثاث الحديث، ويفضي المكتب إلى شرفة تطل على حدائق القصر الغنّاء.
تودع سيارات الرئاسة في مرآب يقع في مبنى مجاور للقصر ولا تفتح بوابته إلا برقم سري، لدواعي الأمن، قد استخدم الرؤساء تقليدياً، سيارات رسمية من نوع «سيتروين» فرنسية الصنع، مع سيارات من نوع «رينو» للتنقلات اليومية، ويراعى أن يكون كل الميكانيكيين العاملين في صيانة السيارات من العسكريين أو العاملين السابقين في الحرس الجمهوري.
يذكر أن القصر قد شُيّد على يد المهندس أرمان كلود موليه، عام 1720، بناء على طلب من لويس هنري دولاتور دوفيرن، الملقب بكونت إيفرو، يخبرنا التاريخ المثير لـ«الإليزيه» أن الملك لويس الخامس عشر قدمه -في ما بعد- هدية لمحظيته مدام دو بومبادور، قبل أن يصبح مقراً للأمير يواكيم مورا نسيب الإمبراطور نابليون الأول، ثم اتخذه هذا الأخير قصراً له، لكن الذي أقام فيه كان ابن أخيه نابليون الثالث.
ومن كونت إلى أمير إلى عشيقة إلى ملك.. مضى الزمان ليجعل من القصر الباريسي الأشهر مسكناً لرؤساء الجمهورية التي أطاحت بالملوك، وآخرهم ماكرون وزوجته بريجيت التي كانت معلمته في الدرسة وهو مراهق قبل أن تتزوجه وتصبح سيدة فرنسا الأولى.