14 يوليو 2022

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

محرر متعاون - مكتب القاهرة

محرر متعاون - مكتب القاهرة

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

أطفأت عوامات القاهرة قناديلها، وأغلقت أبوابها مستسلمة لرحلتها الأخيرة نحو النسيان، بعد حياة حافلة استمرت لأكثر من قرن من الزمان، ظلت خلالها ملء السمع والبصر، بما حملته بين جنباتها من تاريخ عريق وحكايات مثيرة، اختلطت فيها المؤامرات بليالي السمر والبهجة، ومئات من قصص الإبداع والفن.

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

ربما لم يخطر على بال أحد أن تنتهي قصة عوامات النيل على هذا النحو الدرامي، بعدما قررت الحكومة المصرية أخيراً التخلص منها ضمن خطة تستهدف إعادة هيكلة المظهر الحضاري للنهر، وإزالة ما يحيط به من تعديات، لتغادر عشرات من العوامات النيلية مواقعها التي رابضت فيها منذ عقود بعيدة، للمرة الأخيرة، وتأخذ معها جزءاً من تاريخ مصر السياسي والثقافي والفني والاجتماعي، وتجلى في العديد من المذكرات الخاصة التي دونها سياسيون وفنانون مصريون بارزون، على مدار القرن الماضي.

متى ظهرت العوامات في مصر؟

لا يعلم أحد على وجه الدقة متى ظهرت تلك العوامات إلى الحياة في مصر، وإن ذهبت العديد من الدراسات إلى تحديد تاريخ ظهورها إلى بدايات القرن التاسع عشر، كأحد أبرز تجليات فنون العمارة التي ظهرت في العصر المملوكي، لكن الفكرة سرعان ما شهدت رواجاً كبيراً في عهد الخديوي إسماعيل، حيث أطلق عليها المصريون في ذلك الوقت اسم «الدهبية»، نظراً لطلائها بلون الذهب.

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

أنواع العوامات

تتبع عوامات النيل في مصر ثماني جهات رسمية مختلفة، ويفرق القانون المصري بين نوعين من العوامات، الثابت الذي لا يتحرك من مكانه، وهو عادة ما يكون مبنياً من الخشب ولا يزيد ارتفاعه على طابقين، وهو بذلك يكون مهيأ للسكن، فيما يضم النوع الثاني من العوامات محركاً يسمح للعوامة بالتنقل من مكان إلى آخر.

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

تاريخ العوامات

شهدت عوامات النيل على مدار قرن من الزمان العديد من الأحداث السياسية والفنية والاجتماعية الكبرى في مصر، وهو ما رصده الباحث الراحل عصام نبيل، في دراسة نادرة حملت عنوان «تاريخ العوامات على نيل المحروسة» والتي قدم من خلالها عشرات من القصص الاجتماعية والسياسية والعاطفية التي دارت رحاها في تلك العوامات.

أول مصرية تسكن العوامات

كانت المطربة المصرية الراحلة بديعة مصابني، أول من سكن تلك العوامات خلال ثلاثينات القرن الماضي، وقد ظلت عوامتها وجهة لكثير من مشاهير الفن والطرب في ذاك الزمان البعيد، وقد تزوجت بديعة مصابني في تلك العوامة من الفنان الكبير الراحل نجيب الريحاني، وهو الزواج الذي استمر لنحو ربع قرن، قبل أن ينتهي بالانفصال.

صورة قديمة لعوامة بديعة مصباني ونجيب الريحاني
صورة قديمة لعوامة بديعة مصباني ونجيب الريحاني

عوامة حكمت فهمي

لم يقتصر ارتياد عوامة مصابني على أهل الفن، لكنها أيضا ظلت لسنوات طويلة مزاراً للعديد من كبار الساسة خلال فترة الثلاثينات والأربعينات، وكانت أيضاً محل أنظار كثير من الصحفيين الذين كانوا يحصلون من خلالها على كثير من الأخبار الساخنة. ولم ينافس تلك العوامة شهرة، سوى عوامة حكمت فهمي، التي كانت ترابض على الضفة الأخرى من النهر، في ضاحية الزمالك، والتي كانت تخلد إليها كل مساء بعد أن تنهي عملها في نادي «الكيت كات»، الذي كان يستقطب العديد من ضباط وجنود قوات الاحتلال البريطاني، للاستمتاع بما تقدمه في فترة الأربعينات من فنون مدهشة.

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

وتروي العديد من الدراسات التاريخية، قصة تجنيد الراقصة حكمت فهمي للعمل مع قوات الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، عن طريق جاسوس ألماني كان يعمل في مصر ويدعى «يوهان إبلر»، وقد استغل هذا الجاسوس علاقة الحب التي جمعته بحكمت فهمي في تجنيدها والحصول من خلالها على معلومات دقيقة عن تحركات القوات البريطانية. والعجيب في القصة، أن حكمت فهمي نجحت طوال مهمتها في خداع القوات البريطانية للدرجة التي جعلت كثيراً من القادة البريطانيين يتخيلون أنها تعمل لصالحهم، حتى أنهم لقبوها فيما بينهم بلقب «جاسوسة روميل»، قبل أن تسقط في نهاية الأمر في قبضة المخابرات الإنجليزية، لتقضي في السجن قرابة عامين ونصف العام، وتخرج في نهاية المطاف وتقضي ما تبقى من حياتها راهبة في إحدى الكنائس.

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

العوامات في حياة نجيب محفوظ

جذبت حكايات العوامات المثيرة أديب نوبل الراحل الكبير نجيب محفوظ، الذي أقام لفترة طويلة في عوامة كانت مملوكة لأحد الباشوات مطلع خمسينات القرن الماضي. وقد تزوج نجيب محفوظ في تلك العوامة، وأنجب فيها ابنته الكبرى، لكنه سرعان ما هجرها بعدما استيقظ ذات صباح على خبر حادث غرق طفلة بعد سقوطها من إحدى العوامات القريبة.

لكن العوامات ظلت حاضرة وبقوة في العديد من أعماله الروائية، ومن أشهرها ثلاثيته الشهيرة وروايته «ثرثرة فوق النيل»، التي تحولت إلى فيلم سينمائي.

غير أن نجيب محفوظ لم يكن هو الأول بين كبار الأدباء المصريين، الذين ارتبطوا بالعوامات، فقد سبقه إليها شاعر النيل حافظ إبراهيم، ومما يروى في ذلك أن سبب التسمية يرجع إلى أنه ولد في إحدى العوامات التي كانت ترابض فوق صفحة نهر النيل، في عام 1872.

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

مشاهير رفضوا انتقال عواماتهم لضاحية إمبابة

زحفت العوامات على صفحة النهر طوال فترة الخمسينات والستينات، فاحتلت مساحات كبيرة من شاطئه خصوصاً في منطقتي الزمالك والعجوزة، قبل أن يقرر وزير الداخلية المصري حينذاك، زكريا محي الدين، أن تنقل تلك العوامات إلى منطقة إمبابة.

وتشير سجلات وزارة الري المصرية إلى أن هذا القرار انتهى في ذلك الوقت إلى نقل 65 عوامة من منطقة العجوزة إلى ضاحية إمبابة القريبة، إلى جانب إعدام 37 عوامة أخرى كانت حالتها سيئة للدرجة التي كانت تمثل خطورة على ساكنيها، ومن بينهم مشاهير في عالم الفن، وباشوات سابقون، رفضوا الانتقال إلى المنطقة الجديدة، باعتبارها واحدة من المناطق الشعبية، لكن الحكومة المصرية حينذاك أصرت على قرار النقل، ما دفع كثيرون منهم إلى بيع عواماتهم بمبالغ ضئيلة، فيما هجر آخرون عواماتهم الخاصة.

ومن بينهم المطرب الكبير الراحل فريد الأطرش، الذي كانت عوامته تتكون من طابقين شيدا على الطراز العربي، وكانت المكان المفضل له لمقابلة أصدقائه من الفنانين، وعلى ظهرها خرجت ألحان أجمل أغنياته، وقد توقع كثيرون أن تتحول العوامة إلى متحف يضم تراث الموسيقار الكبير الراحل بعد وفاته، غير أن ورثته لم يهتموا بصيانتها والحفاظ عليها، ما دفع السلطات المصرية إلى سحبها وتفكيكها، حتى بيعت خردة في بداية الثمانينات.

بعد الإزالة.. قصص لن تُنسى لعوامات النيل التاريخية في مصر

ربما لم تحظ عائمة من العوامات التي انتشرت على صفحة النيل في القاهرة، بمثل تلك الشهرة التي حظيت بها العوامة التي كان مملوكة للفنانة الكبيرة الراحلة منيرة المهدية، والتي ظلت لسنوات مقصداً لكبار الشخصيات في عهود ما قبل ثورة يوليو. وهكذا على مدار عقود، استقرت العوامات على جانب النهر عند منطقة العجوزة، وحي الزمالك الراقي، ليقبل على سكنها عشرات من الفنانين والسياسيين، بل والأجانب أيضاً، قبل أن يفيق سكان العوامات على البدء في تنفيذ الحكومة لخطة شاملة تستهدف إعادة هيكلة الشكل الحضاري للنهر، لتبدأ تلك العوامات رحلتها الأخيرة إلى غياهب النسيان.

فهل سيبقى تاريخها حاضراً؟

*تصوير: أحمد شاكر

اقرأ أيضاً: حكايات بيوت تركها الفرنسيون خلفهم في "حي الإفرنج" في الإسماعيلية

 

مقالات ذات صلة