تنتشر مئات من قوارب الصيد على صفحة مياه النيل في مصر كل صباح، فتحول منظر النهر الخالد إلى ما يشبه لوحة فنية بديعة، تروي قصة واحدة من أقدم المهن التي احترفها المصريون على مر الزمان، وارتبطت بشكل كبير بعلاقتهم التاريخية بالنهر، الذي كان يمثل ولا يزال شريان الحياة الرئيسي في البلاد، التي وصفها أبو التاريخ هيرودوت بأنها «هبة النيل».
تتراقص قوارب الصيد الصغيرة على صفحة مياه النيل وهي تحمل على متنها مئات من المصريين الذين احترفوا تلك المهنة، وتوارثوها جيلاً بعد جيل، في مشهد مألوف منذ قرون، وهم يلقون بشباكهم في الساعات الأولى من الصباح بحثاً عن الرزق.
مهنة صيد الأسماك في نهر النيل، تصوير- أحمد شاكر
تاريخ مهنة صيد الأسماك النيلية في مصر
عرف المصريون مهنة صيد الأسماك من مياه النيل منذ فجر التاريخ، وتعرفوا إلى مختلف أنواع الأسماك التي تعيش في النهر منذ العصر الحجري، والطرق اللازمة لصيدها. ويدلل علي سرحان، الباحث في الآثار المصرية القديمة بكلية الآثار جامعة جنوب الوادي، على ذلك بالعديد من الرسوم المنقوشة على جدران العديد من المعابد، والتي تصور مختلف أنواع الأسماك النيلية بطريقة تفيض بالحياة ودرجة تثير الدهشة من دقة التصوير والألوان.
مهنة صيد الأسماك في نهر النيل، تصوير- أحمد شاكر
ويضيف سرحان «بلغ ولع المصريين آنذاك بأسماك النيل حد التقديس، إذ كانت قطاعات عريضة تعتقد أن الأسماك في حقيقة الأمر ليست سوى أرواح طيبة من أرواح الماء، فيما ظل آخرون ينظرون إليها باعتبارها كائنات غير طاهرة، وفي مقدمة هؤلاء بعض الكهنة الذين كان محرما عليهم تناول السمك».
وتشير العديد من النقوش على البرديات القديمة إلى مهارة المصريين في التعامل مع أسماك النهر والحفاظ على تلك الثروة، بتخصيص أيام في العام يحرم فيها الصيد، لمنح أسماك النهر فرصة للتكاثر.
مهنة صيد الأسماك في نهر النيل، تصوير- أحمد شاكر
أنواع الأسماك النيلية
تحفل مياه النيل في مصر بالعديد من أنواع الأسماك، من أهمها قشر البياض والبني وثعبان الماء، إلى جانب البلطي الذي يعد من أكثر أنواع الأسماك شهرة وإقبالاً من قبل الغالبية العظمى من المصريين، نظراً لطيب لحمه وانخفاض سعره مقارنة بغيره من الأنواع الأخرى.
احترفت مهنة صيد الأسماك منذ كنت طفلاً صغيراً، أخرج مع أبي في الساعات الأولى من الصباح بحثاً عن الرزق، حيث أخرج أنا واثنين من أشقائي كل صباح لنستقل قاربنا، ونبحر في مياه النهر بحثاً عن الأسماك، وغالباً ما نعود خالي الوفاض، أو بعدة كيلو جرامات معدودة، فقد أصبح النهر شحيحاً عن ذي قبل بسبب العديد من المراكب السياحية العائمة
تحترف عائلة عبد العال، التي تسكن في جزيرة بين البحرين التابعة لمحافظة الجيزة، مهنة الصيد منذ عقود بعيدة، ويقول محمد، الذي يمثل الجيل الثالث من تلك العائلة، والذي يحترف مهنة الصيد مثل آبائه وأجداده «تملك العائلة خمسة قوارب للصيد تعمل في النيل منذ ما يزيد على أربعين عاماً، وقد احترفت تلك المهنة منذ كنت طفلاً صغيراً، أخرج مع أبي في الساعات الأولى من الصباح بحثاً عن الرزق، حيث أخرج أنا واثنين من أشقائي كل صباح لنستقل قاربنا، ونبحر في مياه النهر بحثاً عن الأسماك، وغالباً ما نعود خالي الوفاض، أو بعدة كيلو جرامات معدودة، فقد أصبح النهر شحيحاً عن ذي قبل بسبب العديد من المراكب السياحية العائمة، فضلاً عن نسب التلوث التي تتزايد بسبب بعض المصانع التي تقوم بإلقاء مخلفاتها في مياه النهر».
مهنة صيد الأسماك في نهر النيل، تصوير- أحمد شاكر
طرق صيد الأسماك في نهر النيل
يستخدم صيادو القوارب في نهر النيل عدة طرق لصيد الأسماك، من أهمها طريقة الغزل، وهي الطريقة التي تعتمد دائماً على شباك الصيد التي يختلف نوعها وحجمها حسب نوع السمك المستهدف.
ويقول محمد رمضان، أحد الصيادين الذين يعملون في النهر منذ ما يزيد على عشرين عاماً، «تحتاج تلك الطريقة إلى مهارة كبيرة، وربما تحتاج إلى قاربين يعملان معاً بالتنسيق فيما بينهما، حيث يقوم أحدهما بإلقاء الشباك فيما يقوم الآخر بالضرب على صفحة الماء بعصا طويلة من الخشب يطلق عليها اسم «المِدره»، بهدف إثارة الأسماك ودفعها للدخول إلى الشبكة»، ويضيف «لا ينافس تلك الطريقة السائدة سوى طريقة الـتفريدة، التي يستخدم فيها الصيادون شبكة دائرية، حيث يقوم الصياد بإلقاء الشبكة على شكل دائرة واسعة ويتركها قليلاً حتى تهدأ تحت سطح الماء، قبل أن يقوم باستعادتها مرة أخرى، سواء من على الشاطئ أو من فوق سطح المركب، حيث تحتجز شبكة التفريدة الأسماك داخل الدائرة».
مهنة صيد الأسماك في نهر النيل، تصوير- أحمد شاكر
المكان الأنسب لصيد الأسماك النيلية
تعد مناطق الأحراش المنتشرة على حواف نهر النيل هي المكان الأنسب للصيد بالنسبة للغالبية العظمي من الصيادين، نظراً لما تضمه من كميات كبيرة من الأسماك التي تلجأ إليها لوضع بيوضها في مواسم التكاثر، ويوضح رمضان «تعتمد طريقة الصيد في تلك المناطق على أن إلقاء الصياد لشباكه حول تلك الأحراش في الليل ويتركها حتى الصباح، وغالباً ما يجد شباكه عند سحبها مملوءة عن آخرها بمختلف أنواع الأسماك».
تنتشر على ضفة النهر، كلما اتجه المراقب جنوباً، العديد من الورش التي تخصصت في صناعة قوارب الصيد، حيث تقوم هذه الورش على صيانة القوارب المنتشرة بطول النهر، إلى جانب عملها في بناء قوارب جديدة.
مهنة صيد الأسماك في نهر النيل، تصوير- أحمد شاكر
ويقول الأسطى صبري فاروق، الذي يمتلك ورشة لتصنيع قوارب الصيد «أعمل في هذه المهنة منذ طفولتي، وقد كان والدي يمتلك ورشة كبيرة في منطقة الوراق قبل أن تنتقل العائلة إلى هنا، وأنتقل للعمل بهذه الورشة التي تخصصت في صناعة القوارب المستخدمة في الصيد، والتي تختلف حسب نوع الصيد وتكلفة الإنتاج، إذ تتراوح أحجامها ما بين أربعة إلى ستة أمتار للمركب الكبيرة نسبياً».
مهنة صيد الأسماك في نهر النيل، تصوير- أحمد شاكر
يستخدم الأسطى صبري في صناعة قوارب صيد الأسماك في النيل الخشب المستخلص من جذوع شجر الكافور، الذي ينتشر بغزارة في القرى المصرية وينمو على حواف النهر، ويبين «تتراوح فترة تصنيع قارب الصيد الصغير ما بين ثلاثة إلى خمسة أيام، وتصل تكلفته إلى نحو عشرة آلاف جنيه، بخلاف سعر المحرك الذي قد يرغب بعض الصيادين في تزويد القارب به للمساعدة على الإبحار في مناطق الصيد التي توجد عكس تيار المياه في النهر».
اقرأ أيضًا: أساطير أم حقائق.. 4 أسرار لـ "أبو الهول" تثير فضول العالم