12 فبراير 2022

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

محرر متعاون - مكتب القاهرة

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

تنتصب أبواب القاهرة القديمة في شموخ على تخوم العاصمة العتيقة، لتروي للزائرين حكايات عن سنوات من المجد التي تحولت خلالها عاصمة المعز إلى ما يشبه قلعة حصينة تحطمت على أسوارها أطماع الغزاة، وتقدم في الوقت نفسه صورة بانورامية كاملة لمختلف فنون ما يعرف بالعمارة الحربية، تلك التي أنتجتها الحضارة الإسلامية على مر العصور.

باب زويلة

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

تقدر العديد من المراجع التاريخية عدد الأبواب التي كانت تحيط بالقاهرة القديمة، وتنتشر على امتداد سورها العظيم، بنحو اثنين وعشرين باباً، لم يتبق منها اليوم على حالها الذي بنيت عليه قبل ما يزيد على ثمانمئة عام، سوى ثلاثة أبواب عملاقة، من أشهرها باب زويلة الذي كان واحداً من أهم الأبواب التي بنيت على سور القاهرة القديمة، وقد اختار موضعه القائد الفاطمي جوهر الصقلي، مؤسس مدينة القاهرة، عند زاوية كانت تسمى زاوية سام بن نوح، بالقرب من منطقة سبيل العقادين القائم على رأس حارة تسمى بـ«حارة الروم»، قبل أن يتم بناءه بصورته الحالية الأمير بدر الجمالي في عام 485 هجرية.

وقد اكتسب هذا الباب اسمه، حسبما تذهب كثير من الدراسات التاريخية، نسبة إلى قبيلة زويلة، وهي واحدة من قبائل البربر التي تنتشر في الشمال الإفريقي حتى حدود المغرب، كانت قد جاءت إلى مصر مع جيش جوهر الصقلي وسكنت تلك المنطقة، وكلفت بحماية القاهرة من أي اعتداء قد يأتي من الجهة الجنوبية.

وقد انشأ الجمالي البوابة العملاقة بفتحتين متجاورتين، دخل من إحداها المعز لدين الله الفاطمي إلى القاهرة بعد أن فرغ جوهر الصقلي من بنائها كعاصمة للخلافة، وقد كان لهذا الحدث دور كبير في رفع شأن تلك البوابة، التي تفاءل بها الناس فتركوا الفتحة اليسرى منها لخروج الجنازات إلى المقابر.

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

يتكون باب زويلة من برجين مستطيلين، حوافهما على هيئة أنصاف دوائر، ويتميز البرجان ببنائهما المصمت في الثلث الأول، على نحو يشي بالصلابة والقوة في مواجهة أي غزو قد يأتي من تلك الجهة، بينما يعلو كل برج من البرجين غرفة ضخمة كانت مخصصة لإقامة الجنود المدافعين عن البوابة، مقعد ظل لعقود مخصصاً للمراقبة العسكرية قبل أن يتحول بعد استقرار الأوضاع إلى مراقبة الأسواق المتاخمة للسور الذي بناه جوهر الصقلي من الطوب اللبن، ويحيط بالقاهرة بطول يصل في كل ضلع إلى نحو ألف وثمانين متراً.

ويصف المؤرخ المعروف تقي الدين المقريزي في كتبه، سور القاهرة عند بنائه الأول، بأنه كان سوراً عظيماً، إذ كان طول الطوبة الواحدة الموجودة في جدرانه يصل إلى ذراع وعرضها إلى ثلث ذراع، وهو ما كان يعني أن السور يتميز بالقوة والمتانة، إذ كان سمك السور العريض كافياً، حسبما يقول المقريزي، لأن يمر من فوقه فارسان وهما يسيران بسهولة جنباً إلى جنب.

باب النصر.. أجمل أبواب القاهرة القديمة

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

وقد ضم السور إلى جانب باب زويلة، سبعة أبواب أخرى، هي باب الفرج في الجنوب، وباب الفتوح، وباب النصر في الشمال، إلى جانب باب القراطين الذي عرف فيما بعد بباب المحروق، وباب البرقية في الشرق، ثم باب سعادة وباب القنطرة من ناحية الغرب.

ويعد باب النصر، الذي يقع في الجهة الشمالية من السور الذي بناه بدر الجمالي، واحداً من أجمل أبواب القاهرة القديمة الباقية، وقد شيد هذا الباب في عام 480 هـجرية، حسبما يشير النص التأسيسي الذي يعلوه، ويتكون الباب مثل سابقه، من برجين كبيرين بارزين مربعي الشكل نقشت عليهما صور لبعض الأدوات التي كانت تستخدم في الحروب في تلك الأيام. يمكن الوصول إلى الطابق العلوي للبرجين، عن طريق سلم خلفي مكون من عمود حجري، يلتف عليه درج بشكل حلزوني، فيما يتخذ سقف السلم الحجري هيئة قبو صاعد.

وللبوابة فتحة مستطيلة يصل ارتفاعها إلى نحو سبعة أمتار، واتساعها إلى نحو خمسة أمتار، فيما تتزين واجهة البوابة بمجموعة من الزخارف البارزة، تلائم طبيعة البناء العسكرية، وهو ما يتجلى في كوشات عقد البوابة التي تمت زخرفتها بشكل درع وسيف.

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

وقد خضعت البوابة لبعض التعديلات الفنية، أثناء وجود الحملة الفرنسية في مصر، إذ أدخل الفرنسيون عليها بعض التعديلات حتي تناسب فنون القتال الحديثة، خصوصاً في الغرف العلوية للبرجين، حيث تم تحويل فتحات المزاغل الضيقة، التي كانت تطلق منها أسهم النبال، إلى فتحات للبنادق، وأخرى عدلت حتى تتسع لفوهات المدافع التي جاءت بها الحملة إلى مصر.

يرتبط باب الفتوح بباب النصر القريب، بسور صغير يربط بين البوابتين بذكاء شديد.

ويقول الآثاريون إن بدر الجمالي عندما أنشأ بابي النصر والفتوح في موضعيهما الحاليين، قرر أن يربطهما بسور يوصل بينهما، عبر مجموعة من السراديب الموجودة على ظهر هذا السور، ورغم أن بوابة الفتوح لا تختلف كثيرا في طبيعة بنائها عن البوابتين الأخريتين، إلا أنها تعد آية في الجمال الزخرفي، وهو ما يتجلى في أبراج البوابة التي زخرفت من أسفلها بثلاث حشوات معقودة، واحدة بالواجهة واثنتان جانبيتان، وهذه الحشوات مكونة من صنجات متتالية تشبه الوسائد، بينما تفضي البوابة الرئيسية إلى دركاة مربعة، على جانبيها مداخل خصصت لجنود الحراسة.

باب وكالة القطن

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

ولا ينافس باب الفتوح في دقة الزخارف وجمال المعمار، سوى البابين الذين قام ببنائهما فيما بعد السلطان الغوري، ومن أشهرهما باب وكالة القطن، الذي لا يزال قائما حتي اليوم بمنطقة خان الخليلي بالجمالية، والذي يرجع تاريخ بنائه إلى عام 917 هـجرية، ويتكون الباب من حجر غائر يغطيه عقد مدائني ذو صدر مقرنص، بذيول هابطة تشبه عش النحل يتوسطها لفظ الجلالة، ويشبه الباب إلى حد كبير، بوابة بيت القاضي القريبة التي تتصدر الميدان المعروف باسم بيت القاضي، ورغم أن هذه البوابة تنسب حسبما تشير بعض المراجع التاريخية، إلى عصر محمد على باشا الكبير، إلا أن النقوش الموجودة عليها، تشير إلى أنها شيدت في القرن الثالث عشر الهجري، مثل سابقاتها لأسباب دفاعية وأمنية بحتة.

أبواب العصر الأيوبي

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

تكشف أبواب القاهرة القديمة، طبيعة فنون العمارة الحربية في تلك العصور البعيدة، وهو ما يتجلى في العديد من الأبواب التي أنشأت في عصور أخرى، خصوصا في العصر الأيوبي الذي ظهرت فيه مجموعة جديدة من الأبواب، انتشرت على امتداد سور القاهرة الجديد الذي بناه صلاح الدين الأيوبي، ومن أشهرها باب الشعرية الذي لم يصمد كثيراً، والباب الأحمر الذي لا يزال موجوداً حتى اليوم داخل مبنى القلعة، وباب البحر الذي أنشأه الناصر صلاح الدين، في السور الشرقي المشرف على الصحراء، وباب الوزير الذي يقع بين الباب المحروق وقلعة الجبل، وكذلك الباب المدرج الذي يصنف باعتباره أقدم أبواب القلعة، وفي الناحية الأخرى باب السلسلة الذي يطل على ميدان صلاح الدين، ومسجدي السلطان حسن والرفاعي، في المنطقة المعروفة باسم باب العزب.

أسرار أبواب مصر العتيقة وكفاحها ضد الغزاة

منذ سنوات، والحكومة المصرية تولي أبواب القاهرة العتيقة اهتماماً خاصاً، إذ تخضع على فترات لعمليات ترميم شاملة، والمثير أن تلك العمليات دائماً ما تكشف عن أسرار جديدة لتلك البوابات، ربما كان من أشهرها تلك الكنوز التاريخية التي عثر عليها أثناء عمليات ترميم تمت قبل فترة لباب‏ ‏زويلة،‏ ‏إذ عثرت بعثة آثار أمريكية شاركت في عمليات الترميم ‏‏عن‏ ‏بعض‏ ‏المقتنيات‏ ‏الأثرية‏ ‏كانت مدفونة‏ ‏تحت‏ ‏الباب، قبل أن تقوم بتسليمها إلى السلطات المصرية، ليتم نقلها‏ تالياً إلى مراكز الترميم تمهيداً لعرضها في المتحف القومي للحضارة.

*تصوير: أحمد شاكر