14 أبريل 2024

مهرجان "كان" في الميزان.. هل تراجع الفن لمصلحة "أفلام القضايا"؟

ناقد ومؤرخ سينمائي

ناقد ومؤرخ سينمائي، وُلد وترعرع في بيروت، لبنان ثم هاجر إلى الغرب حيث ما زال يعيش إلى الآن معتبراً السينما فضاء واسعاً للشغف

مهرجان "كان" في الميزان.. هل تراجع الفن لمصلحة "أفلام القضايا"؟

في الوقت الذي يتهيأ مهرجان «كان» لدورة سينمائية جديدة تنطلق في الرابع عشر من الشهر المقبل، يتبدّى التغيّر الخفيّ والصامت الذي حوّل المهرجان من احتفاء فني، إلى آخر يقوم على الدراميات الاجتماعية أساساً.

ليس من المهم العودة بعيداً في رحاب الأمس، لكي نتوقّف عند وجه جديد لمهرجان «كان»، لم يكن مألوفاً على هذا النحو قبل عقد، أو أكثر قليلاً، من الزمن. فباستعادة التاريخ الحديث لجوائز المهرجان، نجد أن الأفلام التي فازت بالسعفة الذهبية من 2014 إلى 2023 كانت تحمل قضايا، أو يمكن القول إنها «أفلام قضايا»، وبعضها اتّكل بشدّة على الحوارات خلال ذلك.

مهرجان "كان" في الميزان.. هل تراجع الفن لمصلحة "أفلام القضايا"؟

فيلم «روزيتا»

هذا هو المعاكس تماماً للعقد الأخير من القرن الماضي، وبعض العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين. لو أخذنا الأفلام التي فازت بالسعفة الذهبية ما بين 1991 إلى عام 1999 سنجد أن فيلماً واحداً من أفلام القضايا الاجتماعية فاز بالسعفة، وهو «روزيتا» للأخوين جان-بيير ولوك داردين سنة 1999. أما باقي الأفلام الفائزة فكانت من تلك التي تتضمن القضية التي تثيرها في انصهار كامل ضمن المعالجة الروائية ذات الأساليب الجمالية.

بالترادف مع هذا الاهتمام، أصبحت الأفلام المعروضة عموماً، لا تخشى هيمنة الحوار الطويل في مشاهد مطوّلة لا تنتهي، كما الحال في أفلام المخرج التركي نوري بيلج جيلان الأخيرة.

الحوار تفعيل ضروري، إذا زاد عن حدّه بات على نقيض من الصورة، ومن الضرورة الحتمية لتفعيل الأخيرة، لأنها هي السينما، والحوار، بالمقارنة، هو المسرح والراديو.

سينما الأمس والأمس القريب كانت ما زالت أكثر اهتماماً بتفضيل الصورة على الحوار، وكانت كذلك أكثر اعتماداً على بلورة الأسلوب الذي من أجله يستطيع الفيلم إيصال ما يريد إيصاله، عوض أن يلقيه أمام المشاهدين على نحو مباشر.

نجد هذا ماثلاً في «متوحش في القلب» لديفيد لينش (1990)، و«بارتون فينك» للأخوين كووَن (1991)، و«أفضل النوايا» لبِل أوغست (1992)، و«وداعاً عشيقتي» لغايكي تشن (1993)، و«بالب فيكشن» لكونتن تارنتينو (1994)، و«أندرغراوند» لأمير كوستارتزا (1995)، و«أسرار وأكاذيب» لمايك لي (1996)، و«طعم الكرز» لعباس كياروستمي (1997)، و«الأبدية ويوم» لثيو أنجيلوبولوس (1998).

فيلم «تشريح سقوط»
فيلم «تشريح سقوط»

أفلام تنطلق من القاع

هذا يجب ألا يعني أن هذه الأفلام، (وكثير منها رائع)، لا تتضمن مضامين اجتماعية، أو سياسية، أو أي اهتمام إنساني النشأة، بل هي على اختلاف منهج كل مخرج، تنعم بأسلوب عمل يضع «المنهج» و«الطريقة» قبل القضيّة المثارة. بعضها، مثل «بالب فيكشن»، لم يحمل أي قضية استثنائية أو انتقاء لتحليل جاد. بعضها الآخر، مثل «أندرغراوند» اشتغل على تشكيل فني صوتي وبصري حافل احتوى حكايات تنتمي لشخصيات الفيلم المتعددة. البعض الثالث، كما حال «الأبدية ويوم»، انتمى لسينما الشعر والتأمل وعرض «قضيّته» فوق بساط من المشاهد الجمالية التي لا تُنسى.

على العكس من ذلك، ولأسباب تتعلّق بنقلة ثقافية من بين أسباب أخرى، أتت الأفلام التي فازت بالسعفة الذهبية في السنوات العشر الأخيرة معاكسة.

بدءاً بالفيلم الفائز في العام الماضي، «تشريح سقوط» للفرنسية جوستين ترييه، نلحظ تركيبة بسيطة (تمهيد، محاكمة، فلاشباك) لتناول موضوع المرأة المتهمة بقتل زوجها. خلال المحاكمة تكشف عن العلاقة القائمة على الهيمنة، والحرمان الجنسي من قِبل الزوج المصاب بإحباط شديد. الموضوع يطغى على الإبداع الأسلوبي في هذا الفيلم، كما في فيلم «تيتان» الذي فاز بالجائزة الأولى سنة 2021 من إخراج جوليا دوكوزناو.

فيلم «نشالو المحلات»
فيلم «نشالو المحلات»

ليس أن هذا الفيلم، الفرنسي أيضاً، يخلو من أسلوب عمل لكنه ليس ذلك الأسلوب الجمالي الذي يوفر المحتوى، بل هو التابع لمحتوى هو بدوره فوضوي، وفي أحيان عدّة بشع.

الأمور متساوية على نحو متقارب في الفيلم الكوري «طفيلي» (Parasite) لبونغ جوون هو (2019)، ثمّ غالب لصالح بصرياته في ربع الساعة الأخيرة، أو نحوها. قبله بعام فاز الفيلم الياباني «نشالو المحلات» (Shoplifters) لكود إيكا كوزيكازو بالسعفة.

كلاهما يعرض وضعاً اجتماعياً لعائلتين فقيرتين باختلاف أن تلك التي في «نشالو المحلات» لا تعلو فوق السحاب لحين قبل أن تهبط مجدداً كما الحال مع «طفيلي».

فيلم «ديبان»
فيلم «ديبان»

في الهم الاجتماعي كذلك كان «ديبان» للفرنسي جاك أوديار خرج بالسعفة الذهبية سنة 2015. هذا فيلم صادق عن ثلاث شخصيات سريلانكية (رجل، امرأة، طفلة)، تم جمعها من دون سابق صلة لتكون بمثابة عائلة واحدة، ومنحها جوازات سفر مزوّرة لكي تنتقل بها إلى فرنسا. بوصول العائلة إلى باريس يستلم ديبان عملاً كمشرف على نظافة مبنى سكني من تلك المخصصة للمهاجرين، بينما تعمل الزوجة المزيّـفة ياليني كمنظّـفة ترعى شؤون رجل شرس له ماض في الجريمة، ولديه الآن ولد شاب أسمه إبراهيم، يدير إحدى عصابات المخدرات التي تقطن ذلك المشروع السكني.

يتعامل الفيلم مع هذا الوضع جيداً، وما يُـثير الاهتمام هو الفكرة الكامنة حول جمع ثلاثة أفراد عليها أن تتصرّف كما لو كانت عائلة واحدة، وما ينتج عن هذه الفكرة من مفارقات.

شغل أوديار يبقى مثار احترام شديد لعاملَين هما المعالجة القريبة من الموضوع والشخصيات من دون تكلّـف، ولطرحه الموضوع الاجتماعي المثار أصلاً. هذا لم يحدث في الأفلام الأخرى المُشار إليها، مثل «مثلث الحزن» و«الميدان» (للمخرج السويدي أوسلند أيضاً)، ولا بنفس الدرجة من السكّر المُحلّى كما في فيلم «روزيتا» للأخوين داردين.

«ديبان» فيلم جيد بفضل تمسّكه بحكايات من القاع بدون تلميع من أي نوع. لا يتجاوزه في ذلك سوى «أنا دانيال بليك» الذي خرج فائزاً بالسعفة في السنة التالية لفوز فيلم أوديار، كما لو كان هذا تأكيداً على الرغبة في تشجيع الأفلام التي تدفع باتجاه الاهتمام بمهمشي الحياة.

«أنا دانيال بليك» حمل ذات الاهتمام بالمجتمع الدوني كحال معظم أفلامه التي تتحدث عن رجال ونساء من الطبقة التي لا تملك، وهي تحاول فقط دفع فواتير الحياة، ووضع بعض الطعام على الطاولة. «آسف، افتقدناك» (للمخرج ذاته، 2019) لم ينجز السعفة على الرغم من إتقان لوتش الدائم لتفاصيل الحياة اليومية، وإيصال مفعول المعالجة الدرامية ومتطلباتها في مقابل نقل صدق الوضع الذي يصوّره.

 

مقالات ذات صلة