عادت جرائم العنف الأسري من جديد، بصورة أكثر ضراوة، بعد أن خفتت لسنوات، لتكشر عن أنيابها قبل أسابيع، في سلسلة من الجرائم الدامية التي شهدتها مصر وعدة بلدان عربية أخرى، فيما عُرف بـ«جرائم قتل الزوجات»، على نحو حوّل تكرار مثل تلك الجرائم بتفاصيلها المروعة إلى ما يشبه الظاهرة التي تبحث عن تفسير، وتنتظر من المعنيين بشؤون الأسرة والمجتمع في المنطقة العربية، البحث عن أسباب تناميها في الفترة الأخيرة، وإيجاد حلول مناسبة لها.
ينظر كثير من خبراء علم الاجتماع وشؤون الأسرة في مصر إلى تلك الظاهرة باعتبارها التجلي الأبرز لحالة الاحتقان التي تعانيها العديد من المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة، والتي لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في إشعالها، بسبب سوء استخدام تلك الوسائل، وتحويل العديد من القضايا والخلافات الشخصية، التي ربما لا يخلو بيت منها، إلى قضايا للنقاش العام، الأمر الذي ساهم في انتهاك الخصوصيات، وفتح الباب واسعاً أمام تدمير بعض الأسر.
نستعرض هنا بعض الأمثلة على ما يحصل في هذا الإطار، ورأي الخبراء في أسباب وتداعيات العنف الأسري:
جريمة ليلة العيد
محافظة بني سويف
ربما تصلح تلك الجريمة التي شهدتها محافظة بني سويف، مؤخراً، مدخلاً للبحث في أسباب تلك الظاهرة، وكيف تحولت إلى واحدة من أكثر القصص المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الأخيرة، حيث فوجئ المصريون خلال فترة إجازة العيد، بمقطع فيديو متداول يكشف تفاصيل واحدة من أكثر جرائم القتل بشاعة، قبل ساعات من انطلاق تكبيرات العيد، لتضع نهاية دامية لقصة زواج بين شاب وفتاة مصريين، لم تستمر سوى ثلاث سنوات فقط.
يظهر المقطع، الذي تم التقاطه من كاميرا خاصة بأحد محال الملابس الذي كانت تعمل به الزوجة القتيلة، تفاصيل تلك الجريمة المروعة التي انتهت بأن سدد الزوج الغاضب أكثر من 27 طعنة نافذة إلى جسد زوجته، ليرديها قتيلة، ويضع تلك النهاية الدامية لفترة زواج قصيرة لم تخل من مشكلات، بلغت ذروتها بإعلان الزوجة نيتها التقدم بدعوى قضائية أمام محكمة الأسرة لخلع الزوج، وهو عامل بسيط في أحد مصانع المدينة يبلغ من العمر 33 عاماً. إذ ظهر الزوجان وهما يتحدثان لبعض الوقت، قبل أن يقف الزوج في حالة عصبية ليستل سكيناً أخفاها بين طيات ملابسه، وينهال طعناً على الزوجة البالغة من العمر 28 عاماً، والتي حاولت مقاومته للحظات قبل أن تستسلم تماماً لطعناته المتتالية، وسقطت على الأرض مضرجة بدمائها.
في إفادته أمام النيابة، قال الزوج إنه توجّه إلى الزوجة القتيلة في محل الملابس الذي تعمل به، لإثنائها عن خطوة تحريك دعوى خلع ضده، وسعى إلى التصالح معها من أجل العودة إلى المنزل من جديد، لكنه أمام إصرارها على موقفها بطلب الانفصال، استلّ سكيناً كان اشتراه من أحد الباعة الجائلين وشرع في طعنها في مختلف أنحاء جسدها، قبل أن يجلس إلى جوار جثمانها ويقطع شرايين يده محاولاً الانتحار، حتى انتبه المارة للجريمة المروعة، وقاموا بإبلاغ الشرطة.
الطبيب القاتل
صورة القاتل طبيب الأسنان مع زوجته الضحية
ومنذ أسابيع ومواقع التواصل الاجتماعي تحفل بعشرات الصور لطبيب أسنان شاب تورط في جريمة مشابهة، عندما قتل زوجته بسبب خلافات زوجية عادية، قبل أن يفاجأ المصريون قبيل عيد الأضحى بأيام قليلة بقصة شبيهة، عندما قامت زوجة شابة بقتل زوجها عمداً مع سبق الإصرار بسكين، لأنه تجاهل أن يمنحها «مصروف العيد»، وقالت في إفادتها أمام جهات التحقيق إنها لم تكن تقصد قتله وإنما فقط تخويفه لوقف اعتداءاته المتكررة عليها. وقد تسببت تفاصيل تلك الجريمة بصدمة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بعدما نشر أقرباء للزوج القتيل بعض التدوينات الرومانسية التي كتبها الزوج إلى زوجته على حسابه في «فيسبوك»، قبل مقتله بأيام، ومنها ما يقول فيها إنها أجمل اختياراته وأعظم انتصاراته.
وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا رئيسيًا في عودة جرائم قتل الأزواج
يقول الدكتور وائل وفاء، استشاري تنمية المهارات والعلاقات الإنسانية، أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا كبيرًا ورئيسيًا في تلك العودة الدامية لجرائم قتل الأزواج، ويؤكد إن تسليط الضوء عليها في حد ذاته ونشر تفاصيلها على تلك المواقع، يعكس حالة كبيرة من الاحتقان بات يعانيها المجتمع، بعد أن تحول هذا العالم الافتراضي إلى عالم جديد يوازي العالم الواقعي الذي نعيشه، ويرفضه كثيرون،
ويضيف «المتورط الرئيسي في القضية الأولى طبيب أسنان يُدرس بالجامعة، أي أنه يعد واحداً من صفوة المجتمع إن صح التعبير من الناحية الفكرية، لكنه على الرغم من ثقافته الرفيعة سقط في حالة العنف الأسري التي تضرب بعض مجتمعاتنا العربية في الآونة الأخيرة، بعد أن تحول هذا العنف المقيت إلى لغة الحوار السائدة، إذ نسي كثيرون أبجديات الحوار الفعّال، أو أساسيات التواصل البناء، لا أفهم حتى الآن كيف وصل أسلوب الحوار بين طبيب أسنان شاب وزوجته إلى التطاول والتجاوز باللفظ والضرب، قبل أن ينتهي إلى استخدام السلاح الأبيض والهرب من المثول أمام العدالة.
الملاذ الوحيد هو العودة إلى دفء الأسرة، لأنها في النهاية درع الأمان والحماية لأي مجتمع سليم يرغب في أن يعيش حياة سوية»
ينظر الدكتور وائل وفاء إلى الجريمة الثانية، التي قتلت فيها الزوجة زوجها بسبب مصروف العيد، باعتبارها من تجليات ما يعتبره فشل منظومة التواصل الاجتماعي في تحقيق أهدافها التي أُنشئت من أجلها، ويضيف «الزوج في تلك الجريمة محب لا يخفي حبه واهتمامه بزوجته، بل إنه يبالغ في التعبير عن ذلك الحب على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما الزوجة على النقيض، لذا فإنها لم تتردد في استخدام العنف ضده عندما حدثت تلك المشاجرة التي تحدث بين كثيرين، بعد أن استقر في نفسها أن خير وسيلة للدفاع عن النفس هو أن تطعنه بالسكين في صدره، ولعلها قرأت ذلك ذات يوم عبر تدوينة نشرت على أحد مواقع التواصل التي باتت تتحكم في قطاعات كبيرة من الناس بصورة تدعو إلى التساؤل والريبة».
يطلق الدكتور وائل وفاء على تلك المنصات «مواقع التباعد الاجتماعي»، ويرى أن الحل السريع والناجز هو الابتعاد عنها تماماً، بعدما تسببت في تدمير كثير من الأسر بسبب ما تبثه من محتوى شاذ، ويحرض على العنف والاستهتار بالمنظومة القيمية الحاكمة للمجتمع، ويخلص «الملاذ الوحيد هو العودة إلى دفء الأسرة، لأنها في النهاية درع الأمان والحماية لأي مجتمع سليم يرغب في أن يعيش حياة سوية».
تورط الفضائيات لا يختلف الدكتور علاء رجب، استشاري التحليل والتأهيل النفسي والعلاقات الزوجية والأسرية، مع رأي سابقه، ويؤكد «ليست وسائل التواصل الاجتماعي وحدها المدانة في كل ما يشهده المجتمع الآن من تحولات مثيرة، بل إن فضائيات كثيرة متورطة في الأمر عبر ما تبثه من برامج بعضها تخصص في الهجوم على الأزواج، وبعضها الآخر يحرض النساء على الطلاق أو أخذ الحق بالعافية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من الزوج، في الوقت الذي تشتعل فيه فضاءات الإنترنت بالعديد من الآراء الشاذة، وبعضها تدونه نساء مقهورات، بشكل يضيف قيمة مضافة للعداوة مع الأزواج بشكل يومي».
ولا ينظر الدكتور رجب إلى الرجال باعتبارهم مجرمين، ولا للنساء باعتبارهن بريئات على طول الخط، مشيراً إلى إحصائية قديمة نسبياً شارك في إعدادها قبل نحو عشر سنوات، أثبتت نتائجها أن نحو 28% من الأزواج يتعرضون للضرب من قبل زوجاتهم، ويوضح «كانت تلك النتيجة المبدئية التي توصلت إليها الدراسة التي شارك فيها باحثون، لكنها لا تعد عين الحقيقة، فهناك ضحايا آخرون تأبى كرامتهم الاعتراف بتعرضهم للضرب من قبل الزوجات، والعكس صحيح أيضاً، حيث تلعب الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعانيها كثير من الأسر دوراً كبيراً في انفجار تلك الظاهرة، في ظل قلة الدخل في بعض المجتمعات، وازدياد الاحتياجات اليومية، وارتفاع أسعارها، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام تزايد المشاجرات اليومية التي تصل إلى حد الاشتعال، في ظل غياب الحكماء من أسرتي الطرفين، فضلاً عن برامج التوعية التربوية التي يتعين وجودها عبر شاشات الفضائيات والإعلام عموماً، وقد أدى هذا الغياب إلى تنامي دور الصديقات أو ما يعرفن برفيقات السوء، جنباً إلى جنب مع تزايد دور «الحموات» ونصائحهن التي قد تتسبب في تدمير الأسر، وإلى إصابة الأزواج باضطرابات نفسية قد تصل إلى درجة أنه لا يطيق كل منهما الآخر».
كثير من الجرائم التي حدثت في الفترة الأخيرة كانت نتيجة لتفكير لحظي، وعدم التحكم في النفس أو في رد الفعل، وهو ما يجعل شخصاً ما يتصرف بعنف، ولكن من دون وعي
يربط الدكتور فتحي قناوي، أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، بين انفجار تلك الظاهرة، وما يطلق عليه العنف المتولد من الانفتاح على وسائل الإعلام الحديثة التي لا تجد حرجاً في عرض العديد من المواد التي تحرض على العنف، ويضيف «كثير من الجرائم التي حدثت في الفترة الأخيرة كانت نتيجة لتفكير لحظي، وعدم التحكم في النفس أو في رد الفعل، وهو ما يجعل شخصاً ما يتصرف بعنف، ولكن من دون وعي، وهذا ما تكشف عنه تلك الزيادة الكبيرة في عدد الجرائم الأسرية التي تم رصدها العام الماضي في القاهرة الكبرى والتي بلغت نحو 78 جريمة أسرية، نجم عنها:
- 82 قتيلاً من أفراد الأسرة
- تبوأت النساء مكانة الصدارة في عدد الضحايا بنسبة بلغت 43 % من هذه الجرائم
- ثم الأطفال بنسبة 26%
أي أن ضحايا الجرائم الأسريّة من النساء والأطفال يشكلون دائماً الأغلبية المطلقة، بينما يأتي الرجال في ذيل القائمة».
ويقول الدكتور قناوي إن نسبة كبيرة من هذه الجرائم تعود إلى الشك في سلوك الزوجة أو الابنة، وهو ما يعرف في المجتمع باسم جريمة الشرف، بينما تراوح باقي الجرائم الأسرية بين محاولة تأديب الزوجة أو الابنة، ولكن بالضرب الذي يؤدي إلى الموت في كثير من الأحيان، وفي الأغلب يكون ذلك تحت تأثير مواد مخدرة.
المشكلات الاقتصادية يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في انفجار ظاهرة العنف الأسري
الدكتور محمد البيومي الراوي، أستاذ الفقه العام بكلية الدراسات الإسلامية جامعة قنا، يرى أن غياب الوازع الديني، أو سيادة المفاهيم الدينية المغلوطة، هي التي تقف وراء كثير من هذه الجرائم، ويبين «شـدد الإسـلام علـى ضـرورة أن يتعامـل الزوجـان بالحـسنى، مصداقاً لقوله تعالى «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»، والمعــروف لغة هو كل ما تعارف عليه الناس من المعاملة الحسنة، لذا فإنه لا تصح بالمعروف، المضارة أو المضايقة أو الإهانة، ولا يصح الأذى والعدوان والتعدي».
لكن الدكتور الراوي يرى في الوقت نفسه أن المشكلات الاقتصادية يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في انفجار ظاهرة العنف الأسري، ويقول «المشكلات التي تحدث في محيط الأسرة، والتي قد لا يطيقهـا رب الأسـرة، قد تنعكس في هذا التفريغ العنيف لشحنة الخيبـة، وتفضي إلى اسـتخدام العنـف، فالبطالـة أو الفقـر أو تراكم الـديون كلها عوامل من شأنها أن تزيـد مـن الـضغوط النفـسية علــى الـزوج، وتزيـد مـن شـعوره بـالعجز والـضعف والانهزاميـة، لكن ذلك لا يمثل قاعدة، فكثير من الرجال الذين يتمتعون بالتربية الدينية والأخلاقية نادراً ما يلجأون إلى استعمال العنف».
يتفق الدكتور الراوي مع سابقيه، في الدور الكبير الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة في إذكاء هذا العنف الذي بدأته قبل عقود بعض الموجات في السينما العالمية، «نـشرت منظمـة الائـتلاف الـدولي في السبعينات، بحثاً مهماً استغرق إعداده نحو عقدين، وقد أظهــر هذا البحث ما يوصف بالأثــر التراكمــي لرسائل العنــف التي صدرت عن التلفزيــون في تلك الفترة، مؤكداً العلاقة المباشرة بين عرض أفلام العنف التي كانت تعرض بالتلفزيون في الستينات، وارتفـاع معدلات الجريمـة في السبعينات والثمانينات.. فما البال الآن، وقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي، على ما تبثه أحياناً من محتوى فاسد، متاحة أمام الجميع، طوال الوقت!».
اقرأ أيضًا: نساء ينتفضن على تعنيف الأزواج
* للإبلاغ عن عنف أسري في دولة الإمارات.. أنقر هنا