25 أبريل 2022

"الأب الدجاجة".. رجال يتنازلون عن مناصبهم للعناية بأطفالهم

كاتبة صحافية


ألكسندر مارسيل

يسمونهم في فرنسا «الآباء الجدد». وهم جيل اتضحت معالمه مع العقد الثالث من الألفية الثالثة. والمقصود بهم أولئك الرجال الذين لا يسعون وراء مرتبات كبيرة، بل يفضلون تقليل ساعات عملهم لكي يخصصوا مزيداً من الوقت لأطفالهم.

هل تحب المرأة هذا النوع من الأزواج؟

اعتاد الرجل الفرنسي التقليدي تدليل المرأة بعبارة «يا دجاجتي». وهي تسمية لا ترتاح لها الأجيال الجديدة من الشابات؛ بل ويعتبرنها انتقاصاً منهن.

أما الزوج «البيتوتي» الذي لا يجد حرجاً في مساعدة زوجته في العناية بالأطفال فإن لقبه هو «Papa poule»، أي بابا دجاجة. وهي تسمية لا يرتاح لها الزوج «الحمش» وقد يجدها انتقاصاً منه. كل ذلك كان في الزمن الماضي. وها نحن نشهد تغييرات ثورية في العلاقة بين الجنسين ونتابع حركات عالمية تطالب بالمساواة الفعلية لا الكلامية، ونعيش عصراً تحررت فيه ألسنة النساء وما عاد يمكن إسكاتهن.

في خضم هذه التغيرات، يظهر في فرنسا، وربما في غيرها من دول أوروبا، جيل جديد من الآباء الذين يعتبرون أن الطبيعة «ظلمتهم» حين قصرت الولادة على النساء ومنحتهن حق احتضان الطفل والحنو عليه وكأن مشاعر الأب تجاه أبنائه أقل من مشاعر الأمهات. يريد الأب الدجاجة ألاّ يكتفي بالسهر في البيت، بدل المقهى، ولا بمشاركة زوجته في أشغال المنزل؛ بل يشعر برغبة كبيرة في أن يكون حاضراً في حياة الأطفال خصوصاً في المراحل الأولى من العمر.

هل يترك الرجل عمله ويتفرغ للعناية بالصغار، مثل النساء؟

نعم. إن الآباء الجدد مستعدون للتنازل عن جزء من ساعات عملهم، أي أن يشتغلوا بنصف دوام، أو في مهن يزاولونها من البيت عبر «النت»، لكي يحضروا الفطور للصغار ويدخلوهم إلى الحمام ويساعدوهم في ارتداء ملابسهم ويقضوا معهم ساعات في اللعب أو قراءة الحكايات. وطبعاً، فإن تقليل ساعات العمل يعني التخلي عن جزء من المرتب.

تكون التضحية المادية مساوية للمكسب المعنوي أو العاطفي؟

هناك المزيد من المؤسسات والشركات التي تلحظ هذه الظاهرة. أي حين يتقدم أحد العاملين بطلب لبرمجة ساعات عمله؛ بحيث لا تتقاطع مع الوقت الذي يحتاج إليه للمكوث مع أبنائه في ساعات ما قبل وما بعد المدرسة، وهذه خطوة غالباً ما تستقبلها الأم بالتشجيع والترحيب لأنها تتيح لها تخصيص وقت أكبر للاهتمام بوظيفتها، أو العودة لعمل كانت قد انقطعت عنه. ولا ننسى أن قانون العمل في فرنسا بات يسمح للأب الموظف أو العامل بأخذ إجازة طارئة ليوم واحد أو يومين حين يكون طفله مريضاً.

ألكسندر مارسيل يكسر القاعدة

ألكسندر مارسيل هو واحد من هؤلاء الآباء الجدد. موظف في منصب عال يبلغ من العمر 36 عاماً. لقد تقدم بطلب إجازة طارئة بعد أن أبلغه الطبيب بأن طفلته تعاني التهاباً مزدوجاً في الأذنين. وبما أن زوجته موظفة أيضاً ولم تستطع تدبير إجازة، فإنه لم يجد حرجاً في أن يحل محلها للعناية بالطفلة البالغة من العمر 6 أشهر. وإذا كان زملاء ألكسندر يعرفونه بهذا الاسم، فإن متابعيه على مواقع التواصل يعرفونه بالاسم الذي اختاره لصفحته «بابا ريشة».

والصفحة هي منبر معروف من المواقع التي تطالب بتمديد إجازة الولادة للآباء. نعم، إن المرأة هي من يلد لكن الطفل يحتاج عناية من الاثنين في شهره الأول. واحد يسهر ويعد مصاصات الحليب ويغير الحفاظات والثاني ينام... بالتناوب. لا تسمح ميزانيات 95 في المئة من الأسر الفرنسية باستخدام مربية.

لا يريد ألكسندر، أن يفوّت ساعة من تلك الساعات الثمينة التي ترافق الأشهر الأولى من عمر الوليد.

وفي سبيل ذلك، فإنه مستعد للتنازل عن جزء من مرتبه لكي يكون شاهداً على تلك اللحظات الجميلة والنادرة و«التاريخية» في الحياة. وهو لا يريد أن يعود من العمل لتحكي له زوجته أن الطفلة وقفت بمفردها وخطت خطواتها الأولى بدون مساعدة. لحظة من العمر يريد أن يكون حاضراً فيها ويراها بعينيه ويصورها بكاميرته ويعيشها بكل متعتها.

بعد أن أصبح أباً، راح ألكسندر، يسجل يومياً وقائع نمو طفلته ودوره في رعايتها، وهي يوميات نشرها في العام الماضي في كتاب صدر بعنوان «لم أتوقع هذا...». وهو يقول إنه نشر تجربته لكي يشجع الآباء الذين لا يفارقون شاشات هواتفهم ولو لربع ساعة ليعدوا فيها مصاصة الحليب لأطفالهم الرضع. لم يتوقع هذا الأب، في البداية، أن ساعات مرافقته لطفلته تعني 460 ساعة سهر، و20 كيلوجراماً من الحفاظات الوسخة، و40 كيلومتراً من دفع عربة الصغيرة.

هذا عدا عن إعادة أغنية «الفيل في الأرجوحة» 1671 مرة.

إن البنت لا تنام إلا إذا غنى لها هذه الأغنية. كل ذلك حدث دون أن يتوقعه. لكن ما لم يخطر بباله حقاً هو أنه سيصبح الناطق بلسان الآباء الدجاجات وسيقابل الوزراء لإقناعهم بتغيير قوانين الأسرة.

كتاب «لم أتوقع هذا...» لألكسندر مارسيل
كتاب «لم أتوقع هذا...» لألكسندر مارسيل

منذ الأول من يوليو 2021 زيدت «عطلة الأبوة» في فرنسا من 14 يوماً إلى 28 يوماً. ويؤمن ألكسندر، أن المجتمع لن يتخلى عن عقليته الذكورية طالما أن الآباء لم يأخذوا مكانهم الصحيح في الأسرة. إن الرجل الذي يتحمل جزءاً من رعاية الطفل سيدرك مدى الجهد الذي تبذله زوجته في التربية. لكن لابد من منح الرجال الوسيلة التي تسمح له بأن يلعب دوره الطبيعي كأب. والمقصود أن يتفهم أرباب العمل حق العامل بإجازة طارئة لأن ابنه مريض، وأن يوافق عليها بمجرد تلقي رسالة هاتفية أو إلكترونية من الأب، على أن يصله الإثبات فيما بعد، أي ورقة من المستشفى أو وصفة من الطبيب.

يغادر ألكسندر، مقر عمله في الخامسة والنصف مساء لكي يذهب لأخذ ابنته «عنبر» من روضة الأطفال. أي أنه يسبق انتهاء الدوام بنصف ساعة. وهناك مؤسسات تستبقي الموظفين حتى الثامنة مساء. لكنه يعترف بأن نظرة المجتمع ما زالت قاصرة للرجل الذي يقف عند باب الروضة أو المدرسة وسط جموع الأمهات، كأن من العيب أن يقوم بدوره كأب أو كأنه يفتقد السلطة على زوجته، ويقول «ما زال هناك الكثير مما يتوجب علينا عمله لزحزحة الأفكار المسبقة والمتخلفة».

فرنسيون يناضلون لتمديد إجازة الأبوة أسوة بالأمهات

هناك أمور في طريقها لأن تتزحزح، أيضاً، في أعلى المستويات. أي أولئك الآباء الذين يمسكون بمقاليد الشركات الشهيرة والعالمية. فقد أعلن باراج أجراوال، رئيس موقع «تويتر»، أنه سيأخذ بضعة أشهر من الإجازة بمناسبة ولادة طفله الثاني. وهو إعلان له صداه في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث لا يتمتع الآباء بأكثر من عشرة أيام لاستقبال المواليد الجدد.

إن إجازة الأبوة غير موجودة في نظامهم الفيدرالي. أما في فرنسا فقد وضع 700 رب عمل من أصحاب المؤسسات الكبرى تواقيعهم على ما بات يعرف بـ «وثيقة الأبوة». وظهر على الشبكة أكثر من وسم للترويج لهذه الفكرة التي تقوم على تقاسم رعاية الطفل مع الأمهات.

ونشر عدد من كبار الموظفين منشورات تؤكد أنهم أوقفوا جانباً من مسؤولياتهم وارتباطاتهم العملية، لفترة مؤقتة تسمح لهم بأن «يشبعوا» من أطفالهم الصغار. وكتب أحدهم «لا بأس من التنازل عن الطبق الكبير في سبيل الاهتمام بالطبق الصغير».

بدأت هذه الحركة تتوسع في المؤسسات الكبرى. ويقول جيروم بالاران، رئيس مرصد التوازن في ساعات الدوام، إن من علامات هذا التوسع اشتراط الموظفين من ذوي المؤهلات العالية، أي المطلوبين بشدة، أن يتضمن عقد العمل نصاً يسمح لهم بالتوقف عن العمل خلال كافة الإجازات المدرسية. وهذا يعني أن الطفل لن يلعب وحيداً في النادي أو البيت أو مع الشغالة، لأن بابا مشغول. ويضيف أن رئيس المؤسسة الذي يجاهر بحياته العائلية وينشر صوره مع أطفاله في مواقع التواصل هو شخص يقدم ملمحاً إنسانياً من شخصيته، وهو ليس الرجل الآلي الذي لا يعرف من الحياة سوى الإدارة والعمل. وكثير من المديرين يحضرون اجتماعات أولياء الأمور في المدارس، وهي مناسبات كانت تقتصر على الأمهات، وبهذا يعكسون عن أنفسهم صورة أكثر لطفاً وأصالة، كما أنهم يشجعون موظفيهم على الاقتداء بهم.

وحتى أولئك الذين يتواصلون عبر موقع «ليندكن» الذي يجمع المهنيين والمتخصصين، باتوا ينشرون حكايات وصوراً عائلية. وعلى سبيل المثال، فإن المهندس نيكولا جانيكو جوندوان، أحد مسؤولي شركة «بويج» للتعمير، دعا متابعيه إلى مشاركته فرحته بولادة طفله ونشر صورة للطفل وهو نائم في مهده. كما شكر هذا المهندس الشاب زوجته علناً على منحه هذه الهدية التي لا تقدر بثمن. وأشار إلى أن شركته وجدت للطفل مكاناً في الحضانة الخاصة بموظفيها كما صرفت له مرتبه كاملاً خلال إجازة الأبوة التي مددها ليكون بجانب زوجته ويتقاسم معها الواجبات. وعدا هذا فإن الشركة أتاحت له تنظيم ساعات عمله بشكل مرن؛ بحيث يخصص وقتاً كافياً للطفل. إذ ليس من العدل أن تأخذ الأم طفلها إلى الطبيب، في حالات المرض أو المتابعة الصحية الدورية، بينما يبقى الأب بعيداً في مكتبه أو ورشة البناء.

وفوجئ الأب وهو يكتشف أن 200 ألف متابع شاهدوا منشوره خلال الساعات الأولى من نشره. وقال إنه يريد أن يثبت لفريق العمال الذين يشتغلون تحت إدارته أن الاهتمام بالعائلة ممكن حتى في أصعب ظروف العمل، وأن الفصل بين الحياة الوظيفية والحياة الخاصة ليس قاعدة جامدة.

هل تتمنين الاقتران بزوج من«الآباء الجدد»؟

لوحظ أن هذه الظاهرة تتركز في الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و40 عاماً. إنهم سعداء بالقيام بدور «الآباء الجدد» وعدم تضييع فرصة مرافقة الطفل في سنواته الأولى، وهي مرحلة من العمر لا يمكن استعادتها ولا تعويضها في أواخر العمر أو بعد التقاعد. أما رؤساء المؤسسات والشركات والدوائر الحكومية، فإن من مصلحتهم مسايرة هذا التوجه نظراً للموجة العالية التي تجتاح المجتمعات عموماً، والمجتمع الفرنسي بالذات، والمقصود بها عدالة تطبيق المساواة بين الجنسين بحكم القانون. فهل أنت، عزيزتي القارئة، ميالة للاقتران بزوج من «الآباء الجدد»؟

في السنوات الأخيرة تحررت الألسن ولم تعد الزوجات الشابات يسكتن على الظلم وعلى إلقاء كل الأعباء على كواهلهن. والرجل العصري لم يعد ذلك «الحمش»؛ بل الذي يشمر عن ساعديه لرعاية أطفاله ومساعدة شريكة حياته. وهذه هي الرجولة الحقة. وليس معنى هذا أن نحصر الزوج في تلك الزاوية الكاريكاتيرية التي نراها في بعض أفلام الفكاهة، أي أن يحمل المكنسة ويشطف الأرضية أو يتربع أمام طشت الغسيل.

لقد حلت وسائل المساعدة والأجهزة الكهربائية الحديثة كثيراً من تلك المعضلات. والمشاركة التي نحن بصددها هي العاطفية. والزوج لا يكون منّاناً على زوجته حين يساندها في مسؤولياتها ويشاركها في الأعباء؛ بل أنه الطرف الرابح في القضية، سيكسب نعمة العلاقة الوطيدة مع أطفاله ويحوز محبتهم وتعلقهم به. لن يعود الغريب الذي لا يشعرون بوجوده إلا لأنه ينفق عليهم، مثل ماكينة السحب الآلي؛ بل كائن مهم يعيش معهم لحظات السعادة والمرض ويساعدهم على اكتشاف أسرار الحياة.

لا شك أن زوجة توني كونكوال، مسؤول التوظيف لدى شركة «لوريال» الفرنسية، هي امرأة سعيدة. فالزوج وصل إلى عمله في العاشرة والنصف لأن حرارة طفلهما ارتفعت خلال الليل وقام بأخذه إلى طبيب الأطفال. وبالتأكيد، فإن هذا النوع من التأخير بات مقبولاً حالياً، لكنه لم يكن كذلك في السابق. فأخذ الأبناء إلى الطبيب هو من واجبات الأم لأنها أقدر من زوجها على نزع ثياب الطفل وتحضيره للفحص واحتواء قلقه وبكائه، أو هكذا يظنون، في حين أن الأب يستطيع القيام بالمهمة نفسها وبالحنان ذاته. ويقول أحد هؤلاء الآباء الجدد «هل أنجح في إدارة مختبر للتجارب الطبية الرائدة وأفشل في تقميط طفلي؟».

هل تحب المرأة الزوج الذي يدس أنفه في وعاء الطبيخ؟

في الوقت الحالي، تضطر واحدة من كل اثنتين من النساء العاملات إلى تغيير برنامجها الوظيفي عند ولادة طفل لها، بينما لا يغير الرجل برنامجه إلا في حالة أب واحد من كل 9 آباء. وتقول الأرقام الرسمية إن مرتب المرأة بعد مرور خمس سنوات على الولادة يتقلص بنسبة الربع، لأنها تضطر لتقليص ساعات دوامها.

إنه أمر لم يعد مقبولاً خصوصاً وأن النساء خرجن من دائرة العمل سكرتيرات ومعلمات ابتدائية وممرضات واقتحمن أعلى التخصصات في الطب والهندسة والتدريس الجامعي وإدارة الأعمال.

لماذا على الزوجة التي درست سبع سنوات للتخصص في فرع هندسي دقيق أن تتخلى عن وظيفتها أو أن تعلقها في حين يستمر زوجها الذي يشتغل محاسباً في وظيفته؟

وماذا لو وصلت الظاهرة إلى بلادنا وظهر لدينا جيل من الآباء الشبان الجدد المؤمنين بضرورة تحمل قسطهم من مسؤوليات العائلة؟

لا تحب بعض الزوجات هذا النوع من الرجال. وهناك من تشتكي من الرجل الذي يدخل المطبخ بعد عودته جائعاً من العمل ويدس أنفه في وعاء الطبيخ ويتذوق لقمة من هنا ولقمة من هناك قبل الجلوس إلى المائدة.

لقد تربت هذه المرأة على أن الرجل كائن فوقي، وأنها هي سيدة البيت بلا منازع، تشرف على إدارته وتدبير شؤونه الكثيرة وتترك للزوج مهمة اتخاذ القرارات الكبيرة. لكن أجيالاً جديدة من الشابات المتواصلات مع العصر ومع برامج التلفزيون الأجنبية والمسلسلات الحديثة يرغبن في حياة زوجية مختلفة، وهن لن يكن سعيدات مع زوج يلازم القنوات الرياضية أو يخرج ليدخن الشيشة مع رفاقه أو يسهر في الخارج مع أصدقائه بينما تذهب هي من جانبها للقاء صديقاتها في سلاسل المقاهي ذوات الأسماء الأجنبية الشهيرة. إن الزواج في عرفهن شراكة وتبادل اهتمامات واقتسام هموم الدنيا وأفراحها. هل هناك ما يجمع الزوجين أكثر من الأطفال؟