في فرنسا، هذه الأيام، حملة مدهشة لتشجيع الشباب على التوجه نحو نوع من الأعمال يسمونها «وظائف العمر الكبير». إنه موسم التخرج في المدارس الإعدادية والثانوية والتوجه نحو المعاهد والجامعات.
الأغلبية تحلم بالهندسة والطب. وهناك من يهوى التخصص في إدارة الأعمال أو علوم الحاسبات أو تكنولوجيا الفضاء. قلائل هم من يتوجهون نحو الجيش ومعاهد الشرطة. والأقل منهم من يدرس التمريض.
من أين تأتي المستشفيات والمئات من دور المسنين بأولئك الدرر الثمينة، أصحاب القلوب الرحيمة، الذين يكرسون حياتهم وجهدهم العضلي لرعاية كبار السن والعجزة والمصابين بالوهن والخرف؟
تحاول الدولة تقديم مغريات لشغل هذه الأعمال، وتعد بتحسين مرتبات العاملين فيها، لكنها لا تجد الاستجابة المطلوبة.
إنها مهنة شاقة جسدياً ونفسياً، أن تعتني بشيخ تحوّل طفلاً لا يقدر على إمساك ملعقة الطعام ولا على الاغتسال وقضاء حاجاته بنفسه. تعتني به يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وتعتاد على معاشرته وأنت تعرف بأنك تأخذ بيده نحو النهاية الحزينة.
لي قريب يعمل طبيباً مشرفاً على دار للمسنين، قال لي إنه يبدأ نهاره بالكشف على من فارق الحياة خلال الليل من النزلاء، وتوقيع شهادات الوفاة لهم. تأتيه الممرضة الليلية بالأسماء وتخبره بأن نزيلة الغرفة 22 قد ودعت الحياة، أو أن نزيل الغرفة 40 ذهب إلى الدنيا البعيدة.
وهناك ليال يفقدون فيها خمسة أو ستة من النزلاء مرة واحدة. ويكون عليه أن يسجل سبب الوفاة «الشيخوخة» ويملأ الأوراق المطلوبة. ولكم أن تتخيلوا معنوياته خلال اليوم بعد ذلك الاستفتاح الصباحي.
الحملة الفرنسية تعلن عن الحاجة لشغل 350 ألف وظيفة في هذا الميدان خلال السنوات الثلاث المقبلة. وهي تتوجه للشباب اعتباراً من سن الخامسة عشرة. لكن دور الرعاية تعجز عن اجتذاب متقدمين. والجميل في الحملة أنها تخاطب العاطفة قبل العقل، وهي ترفع في إعلاناتها شعار
«ماذا لو كنت أنت؟». فالشيخوخة مكتوبة على كل حيّ، وكلنا يحتاج معونة ورعاية في أوقات العجز وخذلان القوى. والعاجز قد يكون أباك أو أمك.
اعتاد الميسورون في الغرب على إيداع كبار السن من آبائهم وأجدادهم في دور الرعاية. إنها باهظة التكاليف، ومن لا يملك نفقاتها فإنه يبقى وحيداً في شقته. وإذا كان متقاعداً فإن دائرة الضمان الاجتماعي ترسل له معينة تزوره في الصباح وتسقيه أدويته وتساعده في شؤون النظافة وتحضير وجبات طعام بسيطة. وأغلب هؤلاء العاملات هن من المهاجرات الأفريقيات اللواتي لا يجدن عملاً أفضل أجراً.
في بلادنا ما زالت الرحمة قائمة لم تتبدد. نستبقي كبار السن من آبائنا وأجدادنا بيننا ونعتبرهم بركة البيت. وهم مثل أطفالنا في الصغر، أكباد عزيزة تدب على الأرض لا حول لها ولا قوة. ومن البيت يخرج الجثمان إلى مقره الأخير، لا من دار المسنين.