06 أبريل 2023

د. باسمة يونس تكتب: حكمة في عبارة

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية

د. باسمة يونس تكتب: حكمة في عبارة

خرج رجل مع ابنه في رحلة أراد منها أن تكون تجربة لولده يتعلم فيها ما عجزت الكتب والمدارس عن تعليمه إياها.

كانت الرحلة تبعدهما عن المدينة وصخبها وتأخذهما عبر الوديان المحاطة بالجبال الشاهقة إلى حيث اختار الأب ألاّ يفصح لولده عن وجهته. وبينما هما يسيران تعثر الولد وسقط على ركبته فصاح متألماً شاتماً الصخرة التي أوقعته ليرتد إليه صدى صوته بنفس الشتيمة الغاضبة فتصيبه الدهشة ويتوقف عن الصراخ.

صاح الطفل يسأل الصوت: من أنت؟ فأجابه بنفس السؤال ما جعل الطفل يعيد تساؤله وفي نفسه أن الصدى شخص يتحداه، وعندما عجز عن إسكاته بدأ يشتمه غاضباً فرد عليه الصدى غضبه والشتائم نفسها.

كان الأب واقفاً لا يتدخل فيما يحدث إلى أن نظر إليه الابن وقد أعجزه صراع يكاد لا ينتهي مع مجهول.

وهنا بدأ الأب يصيح بعبارات طيبة فيرد عليه الصدى بتلك العبارات ما زاد من دهشة الابن واستغرابه.

وعندما بدأ الابن في ترديد عبارات الاحترام والتقدير، كان الرد يأتيه بنفس الأسلوب، فتعجب، وعلى الرغم من سعادته بما سمعه سأل أباه مستفهماً، ليجيبه الأخير بعبارة «لأن الجزاء من جنس العمل» و«ما نحصده ثمار ما نزرعه في حياتنا».

وقصة هذا المثل، تحمل في قلبها حكمة بالغة كعادة الأمثال التي تعبر عن تجارب الحياة والشعوب وتصبح عبرة لمن يتناقلها بعدهم، فالأمثال أسهل وسيلة للتعبير عن حاجات يصعب التعبير عنها مباشرة والأسرع انتشاراً وتناقلاً بين الناس.

وقد اهتم العرب بالأمثلة بدرجة كبيرة وحملوها خلاصة معرفتهم وتجاربهم التي تعبر عن رؤيتهم على اختلاف نشوئها وطرق ولادتها، فقد تنشأ عن حادثة، أو موقف، أو قصة، أو حكمة، أو بيت شعر وأكثرها عن القرآن الكريم والحديث الشريف.

واقتحمت جميع الميادين ليصبح لكل أمر مثلاً يقال للعبرة وللاستفادة فتصبح حكمة العرب ويصبح أي حال أو موقف أو حدث سابق يتكرر أو يشبه في مجرياته الحال أو الموقف أو الحدث الذي سبقه مثل يذكر الآخرين.

ومن المعروف بأن المثل الذي ينقل لنا حكاية ويقص لنا حدثاً لا يقال لمجرد النقل أو التذكير؛ بل لأنه يحمل في قلبه حكمة أكبر وأعمق وأكثر أهمية من القصة التي قيل فيها فيصبح ذا فائدة أكبر من مجرد رواية ذلك الحدث.

ولعل أهم الأمثال تلك التي كانت تقال من أجل تربية الأطفال وتوجيههم في حياتهم كحثهم على الإيمان وترغيبهم في الطاعة والكشف لهم عن الحقائق، وحثهم على المكارم وتنفيرهم من المعاصي، فهي تلعب دوراً كبيراً في التربية ببلاغتها وبسهولة جرياناها على ألسنة الناس. ويقوم المثل مقام المعلم ليتحول إلى درس قيم وعلم يسهل تذكره واستعادته ويمكن من خلاله تقديم الموعظة والنصيحة باختصار وبدون الحاجة إلى مزيد من الكلام أو الخطب.

وعلى سبيل المثال يقال إن «الإفراط في الأنس مكسبة لقرناء السوء» ويعني بأن على المرء اختيار أصحابه ورفاقه وأن يقلل من مخالطة الأشخاص الذين يجرونه للمرح ويغرقونه في حياة المتع والتسلية فيبعدونه بذلك عن الوقار والرزانة، وهو مثل يعوض بسطر عن صفحات من النصح وقصص من التذكير والتحذير عمّا قد يفعله أصدقاء السوء ومدى تأثيرهم السلبي في الآخرين.