مؤتمر السنة الدولية للأسرة في قطر.. البيت «خط الدفاع الأول» في عالم متغيّر
في مشهد يجمع بين واقع متسارع، وتحدّيات معاصرة، واكبت فعاليات الذكرى الثلاثين للسنة الدولية للأسرة في قطر، المتغيّرات وأبعاد «الصراع» والتغيير في حياة العائلات، وأعادت صياغة رؤى جديدة لمستقبل مجتمعات مستدامة، ومتماسكة.
المؤتمر الذي جاء تحت شعار «الأسرة والاتجاهات الكبرى المعاصرة»، نظّمه معهد الدوحة الدولي للأسرة، عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، واستقطب مجموعة من القادة، والخبراء، والأكاديميين، وصناع السياسات، من جميع أنحاء العالم لاستكشاف الاتجاهات العالمية الكبرى التي تؤثر في الأسرة، إلى جانب البحث في السياسات والبرامج التي تعزّز مكانة الأسرة في المجتمع، مستوحياً التزامه بقضايا الأسرة العربية، والعمل من خلال استشاراته لدى الأمم المتحدة على «تعزيز سياسات أسرية عادلة عالمياً».
وعلى مدى يومين، تعمّق المؤتمر في كشف النقاب عن قضايا مصيرية تهدّد استقرار الأسرة حول العالم، بدءاً من تداعيات التغيّر المناخي، مروراً بتأثير الأزمات والحروب، وصولاً إلى التقنيات الحديثة التي باتت تُعيد رسم ملامح العلاقات الأسرية، ووسط هذا الحراك الفكري، تبلورت رؤى جديدة تسعى لصياغة مستقبل أكثر استدامة وتماسكاً للعائلة، وضمان تماسك الأجيال المقبلة.
وفي الإضاءة الشاملة على معظم محاور المؤتمر، وكواليسه، يمكن القول إنّ المؤتمر استقى محاوره من واقع الأسرة «العالمية»، إذا صحّ التعبير، ولم يؤطر نفسه في السياق «القطري» لجهة التركيز على القضايا العالمية، وتأثيرها في الأسرة، مستعرضاً تحدّيات الأسرة على المستوى الدولي، مثل الحروب، النزاعات، التغيّرات المناخية، والتحوّلات التكنولوجية، كما أسلفنا، مؤكداً الحاجة إلى سياسات، مستدامة وشاملة، لدعم الأسَر في مواجهتها.
وإذ يشكل هذا المؤتمر مبادرة عالمية تهدف إلى تحقيق بيئة مستدامة، وعدالة اجتماعية للأسَر في كل المجتمعات، فإن جملة إضاءات ورسائل حملتها مضامين جلساته، وورشه، وركن النقاش فيه:
أولاً: أهمية المؤتمر في تشريح الواقع المعاصر للأُسر
بحث المؤتمر القضايا الراهنة المؤثرة في الأسر، مستعرضاً أربعة محاور رئيسية، تشمل: التغيّرات التكنولوجية، الاتجاهات الديموغرافية، الهجرة والتمدّن، وتغيّر المناخ، ما أكسبه أهمية خاصة في ظل السياقات العالمية الراهنة، مع تزايد الضغوط العالمية، والحروب، والهجرات القسرية، إضافة إلى تحدّيات التوازن بين الأسرة والعمل، وثورة التكنولوجيا التي تفرض واقعاً جديداً على العلاقات الأسرية، ما جعل من المؤتمر نقطة التقاء استثنائية لتقييم هذه التغيّرات، واستنباط حلول مبتكرة.
ومن أهمّ التحديات التي ناقشها المؤتمر:
تحدّيات الأُسر في مناطق النزاعات والحروب.. شهادة مؤثرة من غزة
لم تكن غزة، والسودان، ولبنان، بعيدة عن محاور الجلسات، حيث الحروب تعصف بتلك الدول، إلى جانب ما تعانيه دول أخرى من صراعات، وأزمات، فقد أكّد المشاركون في المؤتمر أن من واجب المجتمع الدولي التصدي لتداعيات النزاعات على الأسر، من خلال توفير الدعم اللازم للأسر المتضرّرة، وضمان حقها في الحماية والأمان.
وفي سياق دولي، دعت أمينة محمد، نائبة الأمين العام للأمم المتحدة، إلى اتخاذ خطوات جادّة لدعم الأسرة، باعتبارها حجر الزاوية في بناء مجتمعات متكاملة، وعادلة، وقالت «ما تبدؤونه اليوم هو نداء عالمي للعمل، والحماية، وتمكين الأسرة».
وفي جلسة بعنوان «حياة ممزقة: الأسرة في ظل الحروب والنزاعات»، شهادة مؤثرة سردتها الدكتورة نور نعيم، المدير التنفيذي لـ«أكاديمية آي أي مايندز»، التي نشأت في غزة، وأكدت على التكاتف الأسري رغم ظروف الحروب، والنزاعات.
والد الدكتورة نور نعيم هو الطبيب فضل نعيم، في الصفوف الأولى في المستشفى المعمداني في غزة، يعمل حتى هذه اللحظة، على الرغم من تعرّضه للإصابة. ترصد د.نور ملامح المشهد، وتأثيره في الأسرة، مشيرة إلى أنّ «ما يحدث في غزة هو إبادة للطبقة المتوسطة، وإبادة تعليمية تستهدف تدمير ارتباط الأسرة بوطنها، لدفع الأسر إلى البحث عن بدائل والهجرة بعيداً»، وعلى الرغم من هذا الظرف القاسي، أكّدت أن الترابط الأسري في غزة في أقوى صوره، حيث تتخذ الأسر قرارات النزوح معاً، وتعيش كجسد واحد.
وأضافت «حالة التكافل المجتمعي في غزة يجب أن تدرّس في الكتب، وعلم الاجتماع، في العالم بأسره، والدافع الأساسي لهذا التكافل هو أننا كلّنا، سواسية تحت الموت في كل لحظة، وليس أمامنا الآن رفاهية البكاء، خيارنا هو التماسك والصبر».
التوازن بين العمل والحياة الأُسرية: 4 من 5 نساء في الدول المتقدمة يؤجلن الإنجاب
تناولت بعض الجلسات تأثير الحياة المهنية المتسارعة في التوازن بين الأسرة والعمل، حيث تناولت الدكتورة ميمونة خليل آل خليل، الأمين العام لمجلس شؤون الأسرة في السعودية، قضية التوازن بين الحياة المهنية والأسرية، إذ بيّنت كيف يؤثر طول ساعات العمل سلباً في خصوبة الأسر، ومعدلات الزواج والطلاق. وسلّطت الضوء على أهمية وضع سياسات جديدة تعزّز مرونة العمل، مثل تمكين النساء من العمل من المنزل، وتعزيز الأدوار الأبوية الفاعلة، على الرغم من الأعباء الوظيفية، إضافة إلى دعم الرضاعة الطبيعية، وأثرها في بناء علاقات قوية بين الأم، والطفل.
من جانب آخر، حضرت مشكلة انخفاض معدلات الخصوبة عالمياً، كإحدى المشكلات القائمة، والمحورية، حيث أوضح ستيفن شو، عالم الديموغرافيا، أن أربعاً من كل خمس نساء في الدول المتقدمة يفضّلن تأجيل الإنجاب، بسبب الظروف الاقتصادية، والمهنية، والاجتماعية، مشيراً إلى أهمية تقديم سياسات ومبادرات من شأنها خلق بيئة محفزة للأسرة، وإنجاب الأطفال، ودعم النساء الراغبات في إنجاب الأطفال.
القضايا البيئية وأثرها في الأُسر
التحدّيات البيئية التي تواجه الأسر كانت حاضرة، وبرزت دعوة للمسؤولية الجماعية لمواجهة التغيّرات المناخية عبر التعاون الدولي، وتبادل الخبرات، واستكشفت الجلسات تأثير التغيّر المناخي، من تزايد الهجرات الناجمة عن الكوارث البيئية، إلى أزمة الأمن الغذائي.
الوزيرة التركية، ماهينور أوزدمير جوكتاش، أشارت إلى ضرورة وضع سياسات دولية تتعامل مع آثار التغيّر المناخي في الأسر، عبر التعاون الجماعي، وتعزيز المؤسسات بالدعم، المالي والبشري. من جانبه، أكد الدكتور محمد بهناسي، خبير بيئي، أن التغيّر المناخي يسهم في انتشار ما يُعرف بـ«الهجرة المناخية»، مسلّطاً الضوء على ثلاث قضايا بيئية مترابطة، تؤثر في الأسر، وهي: النزوح الناجم عن المناخ، انعدام الأمن الغذائي، ونقص المياه.
الأُسر المهاجرة والحنين إلى الانتماء
قضية بالغة الأهمية حول الصراع بين البحث عن حياة أفضل، والحفاظ على الهوية والانتماء، تناولها المؤتمر عبر جلسات طرحت سؤالاً محورياً عن «الحنين إلى الانتماء: ما الذي ينتظر الأسر المهاجرة؟».
تحدثت شاناز إبراهيم أحمد، حرم رئيس جمهورية العراق، بعمق، عن مشاعر الغربة التي تلازم الأسر المهاجرة «حين تغادر الأسر إلى بلاد جديدة، تظن أن حياة أفضل بانتظارها، لكنها، في الواقع، تواجه ظروفاً قاسية تعمّق شعورها بالغربة»، هذا الطرح يعكس التحدّي الأكبر الذي تواجهه الأسر في الخارج، إذ إنها تظل في صراع مستمر بين التكيّف مع مجتمعات جديدة، وحماية جذورها، وهويتها الوطنية، ما يستدعي سياسات دعم، نفسي واجتماعي، تعزّز الانتماء.
وفي سياق متصل، ثمّة طروحات ركزت على أن الأسرة ليست وحدة اجتماعية فقط، بل هي الأساس المتين لاستقرار المجتمعات. وفي معرض تحليلها للتحدّيات المتزايدة، أكدت الدكتورة شريفة نعمان العمادي، المدير التنفيذي لمعهد الدوحة الدولي للأسرة، أهمية التعامل مع الأسرة كوحدة متكاملة «عندما يتعلق الأمر بالسياسات وتطبيقها، يتم التركيز على النساء، والأطفال، وكبار السن كلٍّ على حدة.. ما قد يؤثر سلباً في فرد آخر، في الأسرة نفسها»، موضحة أن تجاهل احتياجات الأسرة كوحدة، قد يزيد من تعقيد المشكلات الأسرية، داعية إلى سياسات شمولية تضع الأسرة، بمكوّناتها كافة، ضمن إطار استراتيجي موحّد.
تلك الجلسات أثارت تساؤلات مهمة حول كيفية إيجاد توازن بين حماية الهوية الأصلية للأسَر المهاجرة، وضرورة الاندماج في المجتمعات الجديدة، وسبل دعم الأسرة كوحدة، في مواجهة آثار التكنولوجيا والهجرة في أفرادها.
التكنولوجيا والبيئة الأُسرية
في السياق نفسه، كانت هناك جلسات حول «أثر أوقات الشاشات في الأسرة»، والتي أضاءت على خطورة الموقف الذي تعيشه الأسر في «السيطرة على استخدام أطفالها للأجهزة الذكية»، حيث أكدت الدكتورة عبير آل خليفة، رئيس التعليم ما قبل الجامعي في مؤسسة قطر، أهمية تعاون الأسرة والمدرسة، لضمان استخدام الطلاب للتكنولوجيا بشكل إيجابي، وقدمت اقتراحاً بضرورة «تدخّل المدرسة لتوعية الآباء بوضع ضوابط للاستخدام التكنولوجي، بما يحقق توازناً بين التعليم والترفيه»، متلمّسة تأثيرات «الفجوة الرقمية» بين الأجيال، وصعوبة الفصل بين وقت الشاشة التعليمي والترفيهي، داعية إلى وضع ضوابط تساعد على تحقيق هدف مشترك بين الأسرة، والمدرسة.
ثانياً: الحضور النوعي
برزت مشاركة شخصيات بارزة، من بينها الدكتورة فيوسا عثماني سادريو، رئيسة جمهورية كوسوفو، والدكتور حسين علي مويني، رئيس زنجبار، ومريم بنت علي بن ناصر المسند، وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة في قطر، إضافة إلى قيادات، عربية ودولية، مرموقة، وعدد من الخبراء، وصنّاع السياسات، وقادة الفكر من جميع أنحاء العالم، ما بلوَر الطابع العالمي للمؤتمر، وأهميته في وضع أجندة للسياسات الأسرية المستقبلية، وطرحه مقاربة شاملة تشخّص واقع الأسر واحتياجاتها، من منظور شمولي.
ثالثاً: محورية اللغة والهوية عربياً
في كلمتها الافتتاحية، وضعت الشيخة موزا بنت ناصر المسند، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، مسألة اللغة والهوية في صلب النقاش، مشدّدة على أن التغيير السريع في عالم اليوم يتطلب من الأسر والمجتمعات العربية اهتماماً متزايداً بترسيخ الثقافة المحلية، كعامل استقرار ضد تأثيرات الثقافة العالمية.
وتوقفت عند كون «اللغة العربية هي الوعاء الذي تتشكّل فيه ثقافتنا، ومن دونها نفقد جزءاً من هويتنا»، مُدرجة تنميط الأفكار الحالي، وقوّة التكنولوجيا وتأثيراتها بـ«الاستعباد الرقمي»، حيث «أصبحنا منتجاً يُباع ويُشترى، وباتت وسائل التواصل الاجتماعي أدوات لغسل الدماغ»، حسب قولها.
وكانت دعوتها إلى الحفاظ على اللغة الأم كقضية جوهرية في تعزيز الهوية الثقافية للمجتمعات العربية «اللغة العربية هي نحن، ومن دونها نغدو هجيناً بلا هوية، لأن اللغة هي الوعاء الذي تتشكل فيه ثقافتنا، وبالاثنتين معاً، اللغة والثقافة، تُصاغ هويتنا».
وتزامنت هذه الدعوة مع دعوات مماثلة على الصعيد العالمي، حيث أبدى المشاركون توافقاً على أهمية هذا الجانب، بخاصة أن الأسرة تمثل الإطار الأول لبناء الانتماء، الثقافي والقيمي.
رابعاً: الحضور الشبابي والأنشطة التفاعلية
فعاليات جانبية متنوّعة جرت على هامش المؤتمر لتعزيز الحوار والتواصل بين المشاركين، من ضمنها «نسيج الأسرة» الذي أبرز الأعمال الثقافية، و«مجلس الحكمة» الذي يدعو إلى استكشاف الصلة المشتركة بين التراث والقضايا المعاصرة، إضافة إلى «ركن النقاش» الذي وفّر منصة للمحادثات التفاعلية، ما عزّز التفاهم، بما يتيح تبادل الأفكار والحلول البنّاءة بين مختلف الثقافات والآراء.
كذلك تضمنت المساحة فعالية «جلسة مع الخبير»، في المنطقة المخصصة لمعهد الدوحة الدولي للأسرة، والتي وفرت فرصة الحديث مباشرة، مع خبراء المعهد، إضافة إلى «المجلس الشبابي» برعاية مناظرات قطر، الذي أسسته مؤسسة قطر؛ وبوابة «مناظرات الدوحة»، إحدى مبادرات مؤسسة قطر العالمية التي وفرت منصة للحوار البنّاء بين وجهات نظر عالمية متنوعة، وحوار منفتح.
خامساً: «نداء الدوحة للعمل» دعوة عالمية لمواجهة تحدّيات الأسرة العصرية
تبلورت مخرَجات مؤتمر الذكرى الثلاثين للسنة الدولية للأسرة عبر «نداء الدوحة للعمل»، وشمل أكثر من 30 توصية، أعلنتها الدكتورة شريفة نعمان العمادي، المدير التنفيذي لمعهد الدوحة الدولي للأسرة، في الجلسة الختامية «ختام المؤتمر ليس كلمات رنانة، أو شعارات لإبراز الإنجاز، ولكنها دعوة للعمل نشارك فيها جميعاً، ويتحمّل كل منّا مسؤوليته في السعي لتنفيذ نداء الدوحة للعمل، ونتكاتف سوياً في سبيل ذلك».
ومن أهم التوصيات:
- إعطاء الأولوية للأُسر التي تعاني الأزمات؛ منح الاحتياجات الأسرية والدعم الإنساني الأهمية قصوى خلال أوقات الحروب والصراعات.
- دمج التربية الأسرية في المناهج الدراسية؛ وضع السياسات الأسرية كركيزة أساسية للعدالة الاجتماعية.
- تعزيز البحث والمناهج المبنية على الأدلة لتوجيه السياسات الأسرية.
- إعطاء الأولوية لرفاه الأطفال من خلال وضع سياسات تعطي الأولوية لمصلحتهم.
- إشراك الأسر والشباب في اتخاذ القرارات السياسية وتصميم البرامج وتنفيذها.
- إنشاء المؤسسات الأسرية المعنية بالأسرة، وتعزيز عملها لتطوير السياسات الأسرية وتنفيذها.
كما وضع «نداء الدوحة للعمل» توصيات تتعلق بتأثير التغيّرات التكنولوجية؛ الهجرة والتمدّن؛ التغيرات الديموغرافية؛ وتأثير التغيرات المناخية.