يصف نفسه بأنّه أقوى مراسل في العالم لعام 203، وبأنه الوريث الوحيد لشيرين أبو عاقلة، الصحفية الفلسطينية التي قُتلت برصاص الجيش الإسرائيلي.
عبد الرحمن بطاح «عبود»، مؤثر فلسطيني من غزة، تعرّفنا إليه خلال حرب غزة، وبات جزءاً من يوميات اطّلاعنا على بعض أخبار تلك البقعة، على وقع القصف والغارات الجوية:
عبود، كما يسمي نفسه، هو ابن غزة، وحكايته مستوحاة من مأساة تلك المدينة، إلا أن ما جعله محط الأنظار هو تعامله الخاص مع الأحداث، حيث يتعامل معها بأسلوب قريب إلى «الكوميديا السوداء»، لجهة اعتماده على السخرية، والفكاهة السوداء، لتناول موضوع جدّي للغاية، وهو الحرب على غزة.
ولكن الحديث هنا عن عبد الرحمن بطاح، «عبود»، لا يغيّب دور كل صحفي في غزة يستبسل من أجل نشر الحقائق، حيث ناهز عدد الصحفيين والإعلاميين الذين قتلوا خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أكثر من 90 صحفياً، حتى كتابة هذا التقرير.
ولكن ما ميّز عبود هو عمره الصغير، إذ لا يتجاوز الـ17 عاماً، وحسّه الفكاهي الذي اعتمده منذ بداية الأحداث. وإن كان هذا الحس يختفي تارة تحت وطأة الألم ودماء المجازر، أو تحت وطأة الضغط اليومي الذي يعيشه أهالي غزة، وعبود واحد منهم، وكذلك جراء انقطاع شبكة الاتصالات، والانقطاع التام عن العالم.
فقد اختفى عبود منذ التاسع من نوفمبر الماضي، وعاد ليظهر مجدداً، بعد عودة شبكة الاتصالات، ليؤكد أنه بخير ويعود ببعض الفيديوهات التي تواكب الحياة اليومية للغزاويين، بأسلوبه الساخر.
ولكن أهمية هذا الفتى تنبع من كون حسّه الفكاهي، أو الكوميديا السوداء التي يعتمدها، تعزز حس التعامل مع التوتر، بحيث تحطّمه، وتحرر الفرد من وضع قائم مفروض عليه، فيتعامل مع الأحداث بعفوية يترجمها عبر فيديوهاته.
ففي أحد فيديوهاته الساخرة مثلاً، عن ثلاجة أمه الفارغة، يحطم عبود التوتر إزاء «كيفية قضاء أيامه بلا طعام»، ويلقي الضوء على قضية تجويع شعب بكامله، ويحفز الجمهور على التفكير بشكل أعمق، حول قضية نفاد كميات الطعام، والخضار، والخبز، وحتى المال.
فالحياة وسط كل هذا الموت معجزة، ولذلك يجسّد عبود بطاح وجهاً آخر للحرب، هو الصمود في خضم الدمار، والنار، والجوع، حيث يظهر في فيديو الثلاجة متسائلاً «هل تتخيلون حالنا من دون طعام، وحتى الماء لا يمكن توفيره، والمخابز فارغة من الخبز، ولكن قد تتذكر فجأة أنك لا تملك المال لشراء أي شيء»، يقولها بسخرية لاذعة.
هذا الحس الساخر يحرره من الشعور بالعزلة، ومن الضغط النفسي، حتى لتشعر بأنك تشاهد الأحداث وتعايشها معه، فيحوّل المواقف الصعبة إلى جبهة صمود، وإلى شكل من أشكال الفكاهة التي تساعد على تخفيف الجو المثقل بالمآسي.
ظهر عبود عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في الآونة الأخيرة، لينقل الأخبار على وقع الغارات الإسرائيلية المتتالية على شمال قطاع غزة، ولكن الملاحظ أن ضحكته باتت ممزوجة بالكثير من الأسى، رغم قدرته على الثبات والابتسام في وجه الكاميرا، على وقع القذائف.
فالوضع الـ«آيس كوفي» لم يعد كذلك، وحرارة المعركة تحولت إلى يوميات مغمسة بدم الضحايا، من أطفال ونساء ورجال، يسقطون، ولا يجدون من يدفنهم حتى.
عبدالرحمن بطاح ليس استثناء، هو طفل مراسل يحاول أن ينقل بعض الحقائق التي يعايشها الصحفيون الميدانيون على الأرض، ويطّل من وقت إلى آخر ليقول «نحن لا نزال أحياء».
فالحدث جلَل، وعبود يحاول أن يترجم لقبه بـ«الوريث الشرعي لشيرين أبو عاقلة الصحفية الفلسطينية التي قُتلت بدم بارد في تغطيتها لمعاناة شعبها»، حقيقة على الأرض، حيث لا يبالي بأصوات القنابل من حوله، ولا يلقي بالاً إلا لمساعدة من حوله، ممن يتعرضون للقصف والإصابة، فيما المستوطنون هربوا من المستوطنات، ويقول ضاحكاً «اختلاف ثقافات يا برو (bro)».
قد لا يتقن عبود أدوات العمل الصحفي بشكل احترافي، غير أن قوته وصلابته في نقل الخبر والدخان يتصاعد من سطح إحدى البنايات، ومن دون أن يرفّ له جفن، دليل واضح على قوة أطفال فلسطين، حيث يقول في فيديو مؤخراً، إنه كان أسيراً، وقاموا (أي الإسرائيليون) بأخذهم في «جولة برمائية».
يقول «سلام الله عليكم، وأسعد الله جميع أوقاتكم. معكم عبود الأسير المُحرّر. كنا مأسورين يا إخوان. يمكن أخذونا (أي الإسرائيليون) ست إلى سبع ساعات معهم في جولة «برمائية». المهم أننا عدنا إلى الحارة. هذه ليست حارتنا، وكل الدور محترقة ومدمرة، ولكن الحمد لله، نحن أحسن من غيرنا».
يعود إلى حارته ويروي حجم الدمار القائم، ويوكل لـ«علي» الذي يصور أن ينقل صورة الدمار، دمار منزله ومن حوله، وحتى جثة على الأرض، ومع ذلك تذهب الكاميرا إليه، ويبتسم.
فعبود الذي لم يتجاوز الـ17 عاماً، ويعتبر أصغر مراسل في قطاع غزة، اشتهر بعبارته «آيس كوفي» في إشارته بسخرية إلى الوضع القائم في غزة.
فهل هذا التعبير يترجم ما يحدث على الأرض؟ بالطبع نعم، «إننا بحماية ربّنا، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، يردّدها عبود ليحافظ على حسّه الفكاهي، وعلى ابتسامته الساخرة وسط كل هذا الموت.