فرضت جائحة «كورونا» على الملايين من الناس البقاء في المنزل ومواصلة العمل عن بعد، حيث طالبت العديد من الشركات والمؤسسات من العاملين فيها البقاء في منازلهم واعتمدوا نظام العمل عن بعد لضمان استمرارية العمل والحفاظ على صحة وسلامة موظفيها. وبعد نجاح التجربة خلال الشهور الماضية أعلنت بعض هذه الشركات أنها بصدد دراسة إمكانية الاستمرار في تبني هذا النظام بشكل دائم لبعض القطاعات حتى بعد انتهاء أزمة الوباء.
فقد أجرت العديد من الشركات دراسات حول جدوى وإيجابيات وسلبيات العمل من المنزل على موظفيها وعلى قدراتهم الإنتاجية، وأكدت معظمها ارتفاع القدرة الإنتاجية لهم وأنهم أصبحوا أكثر سرعة ونجاحاً في إنجاز أعمالهم وذلك بفضل ساعات العمل الأطول التي يقضونها في البيت وبيئة العمل الهادئة الخالية من القيود والضغوط.
لكن في الوقت نفسه، حذرت هذه الدراسات من أن العمل عن بعد على الرغم من أنه للوهلة الأولى قرار حقق السعادة للموظفين وأشعرهم بالراحة إلا أنه تسبب في أضرار نفسية لدى البعض مع مرور الوقت وصلت إلى حد الاكتئاب والحزن.
سألنا عدداً من أساتذة الطب النفسي وخبراء العلاقات الأسرية والتنمية البشرية حول: إيجابيات وسلبيات العمل عن بعد على نفسية الموظفين؟ وكيف نتجنب أضرار العمل من المنزل على صحتنا النفسية والعقلية؟
العمل من المنزل يقلل الضغوط اليومية
في البداية تؤكد الدكتورة نسرين البغدادي، المديرة السابقة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، أن الجميع وُضع خلال أزمة «كورونا» في تحدٍ جديد وهو التكيف مع أسلوب العمل عن بعد أو من المنزل، فهو نمط جديد علينا خاصة في الدول العربية.
وتقول «العمل من المنزل له فوائد عديدة لا أحد يستطيع أن ينكرها وأهمها تقليل الضغوط اليومية التي يتعرض لها الإنسان خلال ساعات عمله وتوفير الوقت الذي يضيع يومياً في مشواري الذهاب والعودة من العمل سواء في المواصلات أو في سياراتنا الخاصة وأيضاً انخفاض التكاليف وعدم الالتزام بمواعيد العمل والاجتماعات والتعامل مع المديرين والزملاء طوال الوقت، والعديد من الفوائد الأخرى التي أدت إلى ارتفاع إنتاجية الموظفين بشكل ملحوظ».
وتضيف «وبالنسبة للمرأة فالأمر مليء بالفوائد المحسوسة وغير المحسوسة، فقد وفر العمل من المنزل الكثير من التكاليف عليها بدءاً من المواصلات ومصاريف الحضانات وشراء الملابس الجديدة ومساحيق المكياج والتجميل، واعتمادها على الوجبات الجاهزة قل كثيراً بعد بقائها لساعات أطول داخل المنزل مما ساعدها على إنهاء وإعداد الوجبات المنزلية لها ولأسرتها إلى جانب عملها وهو بند كان يكلف الأسرة الكثير كل شهر نتيجة الاضطرار للاعتماد على الوجبات الجاهزة لضيق الوقت الذي تعانيه المرأة العاملة دائماً».
وتنصح الدكتورة نسرين البغدادي النساء بالاستفادة من هذه الفترة التي أتاحت لهم العمل من المنزل بالقرب من الأسرة، فهذا الأمر يحتاج إلى استثمار حقيقي لتوطيد العلاقة مع الأبناء والزوج والتعرف أكثر إلى احتياجاتهم والعمل على تلبيتها بما يخفف من قلقهم ويحقق لهم المزيد من راحة البال والاطمئنان.
حل سحري خاصة للنساء العاملات
أما الدكتور أشرف ثابت، أستاذ الأمراض النفسية وتعديل السلوك، فيؤكد أن العمل من المنزل يعتبر أحد الحلول الذهبية المناسبة خاصة للنساء، فالتجربة أثبتت أن هناك الكثير من الوظائف التي يمكن ممارستها من المنزل وهو الأمر الذي اتجهت له الكثير من الدول الأجنبية حالياً ومن قبل أزمة «كورونا» فقد اتجهوا لإتاحة الفرصة لبعض الوظائف لإنجاز العمل عن بعد بشكل كامل أو تحديد أيام وأيام أخرى من العمل.
ويرى ثابت أن من أكثر الفوائد التي نتجت عن نظام العمل عن بعد هو تقليل الازدحام في الشوارع وتوفير العملة للبلد وتقليل نسبة التلوث وثقب الأوزون. لكنه في الوقت نفسه يؤكد أنه أصبح لزاماً علينا خلال العمل في المنزل التطوير من شخصياتنا لتصبح مهيأة للعمل من المنزل بشكل أفضل حتى لا نتعرض للاكتئاب والشعور بالعزلة والانزواء.
وعن كيفية العمل من المنزل بلا مشكلات نفسية، يقول الدكتور أشرف ثابت أنه يجب الاستمرار في نفس طقوسنا القديمة الخاصة بالعمل مثل الاستيقاظ مبكراً والعمل في البيت في نفس مواعيد العمل الرسمية وممارسة الروتين اليومي الذي تعودنا عليه حتى وإن تطلب الأمر تجهيز مكان خاص بالعمل كحجرة للمكتب وتصميمها بما يناسب احتياجاتنا للعمل ولا مانع من حلاقة الذقن للرجل وتهذيب الشعر للمرأة وارتداء ملابس الخروج وتناول القهوة قبل الانغماس في العمل، كل ذلك يجعل الفرد يعيش في جو العمل دون أن يصاب بمشكلات نفسية.
ويشدد استشاري الأمراض النفسية على أنه من أهم الأمور التي يحتاجها الإنسان لإتمام عمله في المنزل براحة نفسية هو العمل في مكان منظم ونظيف وفيه بهجة ومجهز، والأفضل أن يكون ذلك بعيداً عن الفراش وحجرة النوم لأن هذا يؤثر في صحتنا النفسية ولن نستشعر بالتغيير وسنشعر أننا محبوسون في الفراش ليل نهار، وهو إحساس يرتبط في أذهاننا بالمرض وأوقات الإجازات.. أما تجهيز مكان مخصص للعمل فهو يعطينا طاقة إيجابية لنستمر في العمل لساعات دون تشتت وبتركيز، وهو ما يمكننا من الإنجاز ويرفع من طاقتنا الإنتاجية.
تقوية الروابط الأسرية والحفاظ على الصحة النفسية للأبناء
ومن جانبها، تؤكد الدكتورة مي عيسى، أستاذة الأمراض النفسية والعصبية بالقاهرة، أن العمل عن بعد بالفعل يحقق تحسيناً في الأداء والإنتاجية لدى الكثيرين خاصة السيدات لأنها أصبحت أقل عرضة لتضييع الوقت بسبب التأخر في الوصول لمقر العمل وكذلك العودة للمنزل وتضييع الوقت في الأحاديث مع الزملاء، بل بالعكس عندما تعمل من البيت فهي أكثر تركيزاً وكذلك تكون أقل توتراً بشأن أولادها فهم إلى جوارها لا تفكر فيما يحدث لهم، فبيئة العمل المكتبية بالفعل مليئة بعوامل التشتت.
كما أن العمل من المنزل حقق للكثيرين توافر المزيد من الوقت الذي يقضيه مع أسرته مما يؤدي إلى تقوية الروابط الأسرية والحفاظ على الصحة النفسية للأبناء بوجه خاص والأسرة بوجه عام.
لكن تلفت الدكتورة مي عيسى إلى أن عمل المرأة في المنزل لا يخلو أيضاً من الصراعات النفسية، فغالباً أيضاً زوجها يعمل من المنزل ويطالبها بتوفير الجو الملائم له ليعمل في بيئة هادئة، بخلاف ذلك تعاني صراعاً بين متطلبات المنزل والأبناء ومتطلبات العمل وهناك بالفعل البعض ممن لا يجيدون التركيز في محيط المنزل بسبب عوامل التشتيت كوجود الأطفال وهو ما يسبب أحياناً الكثير من التوتر والإزعاج ويجعل الشخص لا يجيد إنجاز العمل.
وتوضح أستاذة الأمراض النفسية «العمل من المنزل يبدو للكثيرين أنه أسهل بكثير لكن في الحقيقة يحتاج إلى الكثير من الجهد لتحقيق المطلوب منه في ظل إمكانات تكنولوجية أقل مما في محيط العمل، كما أنه يقلل من الحميمية بين الزملاء والتي لها دوراً كبيراً في التشجيع على مواصلة العمل، كما أن بقاء البعض في البيت يقلل من الخبرات التي يستفيد منها الموظف من الزملاء الأقدم والأكثر خبرة منه».
وتنصح د. مي عيسى المرأة بضرورة الفصل بين وقت العمل والوقت الشخصي، فإذا كان الالتزام بروتين العمل اليومي وأعمال المنزل ضرورياً فمن المهم أيضاً الالتزام بفترات العمل حتى يتسنى لنا الاستمتاع بفترات الراحة دون منغصات، ويجب على الزوج ألا يثقل على زوجته ويدعمها بدلاً من زيادة متطلباتها بتوفير متطلبات الأسرة في الأوقات المطلوب منها إنجاز الأعمال فيها.