سلة خياطة، لفائف من صوف ملون وزوج من المغازل البلاستيكية.. هذه هي عدّة الشابة الفرنسية المعاصرة لتجديد النشاط والاحتفاظ بمزاج رائق وأعصاب هادئة.
ما حكاية العودة إلى تقليد كاد ينقرض منذ القرن الماضي؟
هل هي موضة عابرة أم بحث حقيقي عما يشغل اليدين ويريح العقل؟
كانت الصورة التقليدية للجدة في القصص والأفلام هي تلك المرأة العجوز ذات الشعر الأبيض وهي جالسة على مقعدها الأثير وبيدها إبرة التطريز أو الصنارة أو شيش الحياكة لكي تطرز شراشف ووسائد أو تنسج مفارش للمائدة وشالات من صوف وثياب أطفال.
ثم تحررت البنات من تلك الانشغالات اليدوية وقضى اقتناء البلوزات الجاهزة على مهارة الحياكة في البيت.. ما حكاية عودة الأشغال اليدوية إلى المساءات الرائقة في صالون الأسرة؟
تكفي متابعة مواقع التواصل لاكتشاف العدد الكبير من المجموعات التي تتبادل خبرات الشغل اليدوي والتطريز والتفصيل. واللافت أن المهتمات بهذه الهوايات لسن من ربات البيوت فحسب بل النسبة الغالبة هي من العاملات والناشطات في حقول الخدمة الإنسانية والعامة وحتى من المشتغلات بالسياسة.
هؤلاء اللواتي كن يفرغن توترات النهار بالاستماع إلى الموسيقى أو قضاء الأمسيات في النادي الرياضي وحمامات «الساونا» وجدن طريقة جديدة ومفيدة للترويح عن النفس وفكفكة الأعصاب المشدودة.
يمكن لمتابعة هذه الظاهرة رؤية أعمال الحياكة والتطريز وشغل الصنارة التي تنشر صاحباتها صورها في حساباتهن بمواقع التواصل. كأن هناك مباراة في تقديم الأجمل والأكثر ابتكاراً.
ومنذ ظهور الـ«سوشيال ميديا» باتت هذه المواقع مرآة لاتجاهات المجتمع ومقياساً لأمزجة الرجال والنساء. لذلك فإن جهات لا حصر لها تتابع ما ينشر فيها بهدف دراسة اهتمامات الناس اجتماعياً واقتصادياً وحتى سياسياً. وكم سمعنا صرخات من نوع «إنهم يتجسسون علينا» أو «هاتفي يراقبني!».
اعتاد من يتعلم اللغة الفرنسية أن يبدأ بدروس تصريف الأفعال. ومع انتشار ظاهرة الأشغال اليدوية ظهر تصريف طريف وجديد كالتالي: أنا أطرّز، أنت تنسج، هي تحيك، أنتم تخيطون، هم يرتقون، هن يكوين.
هل هي عودة نسائية جماعية إلى الوظائف التي كانت الشغل الشاغل للأمهات والجدات في السنوات الخوالي؟
ولماذا تتذمر الزوجة حين لا يساعدها زوجها في غسل الأطباق أو تمرير المكنسة الكهربائية بينما لا يزعجها أن تجلس لساعتين، بكامل إرادتها، وبيدها عدة الحياكة وكرات الصوف؟ أليست الحياكة من أشغال ربة البيت؟
أساليب تطريز جديدة
ظهرت في المواقع أساليب جديدة من التطريز وبنقوش مبتكرة. ولم يعد غريباً أن تعرض إحداهن حقيبة للتسوق صنعتها بنفسها من شغل «الكروشيه» وفق تقنية تلقى إقبالاً كبيراً.
وهناك من تنشر صورتها مرتدية بلوزة قديمة قامت بتجديدها وحذفت منها الياقة والأكمام. أما اللحافات والأغطية التي يجري تجميعها من بقايا القماش «الباتشوورك» فهي الأكثر رواجاً بين شابات الجيل الجديد في فرنسا.
باختصار: ظهرت مهارات يمكن أن ينطبق عليها المثل الفرنسي القائل بأن فلانة تتمتع بأنامل ساحرة، وهي مهارات كانت تكتسب أواسط القرن الماضي من خلال حصص الفنون البيتية التي انقرضت من مناهج الدراسة.
وبنات اليوم لا يعرفن كيف يمسكن إبرة ولا كيف يطوين حافة ثوب بهدف تقصيره. في حين أن الصبيان في مصر والعراق وسوريا وفلسطين كانوا يتعلمون هذه المهارات في الصغر مثلهم مثل البنات، في أربعينات القرن الماضي.
وتقول طالبة في الصف المنتهي من كلية العلوم إنها خجلت حين سقط زر من معطفها وفوجئت بجدها المهندس المتقاعد يتولى تثبيت الزر المقطوع بكل إتقان لأنها عجزت عن ذلك.
«بنيلوب القرن 21»
تطلق الصحافة على هؤلاء الحائكات الشابات تسمية «بنيلوب القرن 21»، أسوة ببطلة الأسطورة الإغريقية بنيلوب التي سافر زوجها عوليس وراء البحار وبقيت تنتظره وهي تحيك له رداء على أمل أن يعود. وكلما انتهت من الحياكة فكّت الخيوط وعاودت نسجها من جديد. لكن البنيلوبات الجديدات لا يمارسن الحياكة لإرضاء أزواجهن بل لتسلية أنفسهن ما دام أن الموضة الشائعة حالياً هي العودة إلى كل ما هو قديم و«فنتايج».
موضة «الفنتايج» تعود
لا أحد ينكر أن شيوع موضة «الفنتايج» وتجارة الثياب القديمة جاء بسبب الأزمة الاقتصادية وعجز الطبقة المتوسطة عن اقتناء الجديد للحفاظ على أناقتها. وبعد أن كانت الطالبات الفقيرات هن من يتردد على دكاكين الملابس المستعملة فإن نجمات السينما وسيدات المجتمع بتباهين اليوم بارتداء قطع الثياب التي تعود لموضة الستينات أو السبعينات من القرن الماضي.
ويفسر علماء الاجتماع، ومنهم ألكسندرا جوبي المتخصصة في مراقبة التوجهات الجديدة، ظاهرة العودة إلى الأشغال اليدوية بين نساء الجيل الجديد بأنها نوع من الحنين لدور ربة المنزل.
فقد سعت الأمهات للتحرر الاقتصادي ودافعن عن حقهن بالخروج للعمل في حين أن بنات اليوم يضقن بساعات الدوام الطويلة وبالزحام في الموصلات، وبواجب طاعة مدير العمل أو تحمل نزواته.
هي ليست انتكاسة إلى زمن الحريم ولن تكون كذلك، لكنها ميل إلى حياة أقل ضوضاء ومسؤوليات ثقيلة. إن رائداتها يسجلن لأنفسهن تسجيلات يتغنين فيها بمتعة الأشغال اليدوية والتطريز والخياطة وينشرنها على منصة «تيك توك».
ومن المعروف أن كثيرين وكثيرات يقلدون ما يرون.
هي إذاً نوع من رد الاعتبار لما تنتجه اليد. وكذلك تعبير عن متعة ممارسة هذا النوع من الأشغال. ففي السابق كان التاجر يرفع من شأن بضاعته حين يقول للزبون إن هذه القطعة هي «هاند ميد» أي مشغولة يدوياً. والمتعة تأتي من أن صاحبتها تعملها لنفسها وعلى أقل من مهلها.
فهي لا تنسج الجاكيتات أو تطرز المفارش بهدف تجاري أو تكون خاضعة لوتيرة معينة من الإنتاج.
وتقول عازفة كمان إن المتعة تكمن في استعادة بطء الزمن، أي حين لا تكون الواحدة ملاحقة بالمواعيد وببرنامج يضغط على الأعصاب. فحتى التدريبات على العزف لا تساهم في استرخاء الأعصاب لأنها واجب مفروض عليها وعمل مطلوب منها القيام به..
هل يكون التطريز أمتع من الموسيقى؟
سر هذه الهوايات أنها لا تتطلب مواد كثيرة ولا نفقات باهظة. فمفرداتها موجودة في كل بيت، وتزداد المتعة حين تتوصل المرأة إلى استخدام ما تحت يديها من أقمشة وخيوط قديمة وتحويلها إلى أعمال متجددة ومبتكرة.
بهذا تنفي عن نفسها صفة الإنفاق حد المغالاة والتبذير. ورغم «براءة» الظاهرة فإن هناك من استغل صاحباتها وراح يمطرهن بالبرامج التعليمية والتطبيقية والكتب التوضيحية. صار هناك أسطوات في فنون النسيج مثل الطهاة المشهورين على قنوات الطبخ.
وشيئاً فشيئاً يمكن لظاهرة التسلية أن تتحول إلى مشاغل وورشات منزلية بهدف الكسب المادي. أي أن تتحول الباحثة عن صفاء الذهن إلى خياطة وطرازة محترفة للصديقات والجارات ومن بعدهن الزبونات الغريبات.
فصول ترتيب حجرات المنزل وفنون الديكور
وإلى جانب فصول أشغال الإبرة ظهرت فصول ترتيب حجرات المنزل وفنون الديكور. وهناك من يشجع المرأة على أن ترسم بنفسها اللوحات التي تزين جدران صالونها. والرسم ممارسة ممتعة ومريحة للذهن، كما هو معروف، لكنه يتحول إلى تعذيب حين يضع لك شخص خارجي شروطاً ومقاسات ومواعيد للتنفيذ وللانتهاء.
وتقول الفيلسوفة الفرنسية ماري روبير إن الخيط والحبل كان موجوداً في البيت منذ العصور السحيقة، سواء المصنوع من غزل وبر الحيوانات أو المفتول من لحاء الأشجار والنباتات. والأساطير التي انتقلت إلينا من الحضارات القديمة مليئة بقصص الحائكات وعاقدي الحبال، سواء لستر الجسم أو لصيد السمك أو لبناء القوارب والسقوف الواقية من الشمس والمطر.
وبهذا فإن الحياكة رافقت الوجود البشري في كل مراحله، كان الحديث عن الخيط يعني الحديث عن لب الحياة. ومع حلول القرون الوسطى راحت النساجات يخترعن خطوط الموضة والأزياء، وانضمت إليهن الطرازات. وما زالت أعمالهن الخلابة تملأ المتاحف وتظهر في لوحات عصر النهضة.
ما الذي يستهوي شابات عام 2022 في تلك المهارات؟
لقد فرض الخيط نفوذه الخاص على العام. فمن تنسج الخيوط فإنها قادرة على نسج مصيرها وتفاصيل حياتها. هذا عدا عن القيمة الفنية والمادية لهذا الشغل الدقيق الذي تبدعه الأنامل بكل تأن وصبر.