6 فبراير 2023

د. حسن مدن يكتب: مطر الذاكرة

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"، صدرت له مجموعة من الكتب بينها: "ترميم الذاكرة"، "الكتابة بحبر أسود"، "للأشياء أوانها"، "يوميات التلصص".

د. حسن مدن يكتب: مطر الذاكرة

يوقظ المطر في نفس كل منا ذاكرة ناعسة، أخذها الوسن لكن نومها خفيف. أحلى مطر كان مطر الطفولة. مطر بيوت الطين التي كانت مزاريب المطر المصنوعة من الخشب مثبّتة أعلاها، حين ينهمر المطر وتضجّ الدنيا بالفرح والوعود، نركض بأوانينا الصغيرة باتجاه ذاك المطر المنهمر من تلك المزاريب، نملأها من مائه ليستخدمه الكبار في تحضير الشاي والقهوة. كان لطعم الشاي المعمول من ماء المطر مذاق مختلف عن ذاك الذي عهدناه. مذاق يغمرنا بإحساس حنون.

بعد سنوات حين سرق العمر الطفولة، ونأى عنا الوطن أو نأينا عنه، جرّبت أن أطعم الشاي المعمول من ماء المطر فلم أستعد مذاق الطعم الذي كان له في الطفولة، ألأن مطر الوطن أحلى من مطر سواه من البلدان؟، أم إن للطفولة طعمها الذي لا يستعاد أبداً؟، أم لأن العمر سكب قطراته المرّة في أمطارنا فما عاد لها المذاق العذب الذي كان؟

في عمر لاحق وفي جوّ ماطر أيضاً، وفي أرض أخرى من أراضي الله الواسعة التي مشى في مناكبها، التصق الفتى بنافذة الغرفة التي يقيم فيها، يتأمل الأمطار الغزيرة المنهمرة تغسل الشارع المواجه مما علق به من أتربة، وتمنح غابة الأشجار الداكنة الخضراء نضارة وزهواً، وخطر في باله لحظتها: يقال إن الدموع تغسل الحزن، فهل كانت السماء حزينة وارتأت أن تغسل أحزانها فتُلقي ما في جوفها من أحزان على شكل مطر؟

ساعة الموعد أزفت، والمطر ينهمر بدون توقف، وتمنّى الفتى في قرارة نفسه لو أن هذا المطر المجنون هدأ ولو قليلاً، ليمنح من ينتظر، فرصة أن تجيء، ولكن المطر هزأ من رجائه فازداد غزارة. وفي غمرة ذلك الجنون المطري وصل «الباص» متأخراً عن موعده، ولكنه جاء، ومنه اندفعت صبية تلفّ حولها معطفها بقوة أكبر، ترفع عن عينيها خصلات من شعرها هبطت من تحت قبعة رأسها.. وتسير.

من نافذته شبه المواربة راقب الفتى الصبية تسرع إلى موعدها، وتناهت إلى مسامعه وقع خطوات حذائها على أسفلت الطريق الفرعي المغسول بالأمطار. خفق قلب الفتى المسحور، وفكّر: طوبى للمحبين تحت المطر.

ليست الذكريات السعيدة وحدها هي ما يوقظه المطر. إنه يوقظ أيضاً الذكريات الباعثة على الحزن التي ظننا أنها غابت في صناديق الذاكرة، فإذا بها تصحو مجددة في النفوس الشجن. ألم يسأل بدر شاكر السيّاب: «أي حزن يبعث المطر؟/وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟/وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟/بلا انتهاء.. كالدّم المراق، كالجياع/ كالحب، كالأطفال، كالموتى.. هو المطر!».

 

مقالات ذات صلة