كيف يمكن أن نسمع الآخرين صوتنا من دون أن نصرخ في وجوههم؟ وهل يمكن التوصل إلى حلول وسط من دون أن نقوم بالتضحية بأنفسنا؟ وما هو السبيل للعيش بتناغم مع الآخرين، سواء أكان في كنف الأسرة أو مع الأصدقاء أو في مجال العمل؟
كل هذه الأسئلة وغيرها يستعرضها ويقدم لها الإجابات كتاب «كيف تقيم علاقات سلمية مع الآخرين؟»، للمؤلفة آن دوكروك ، التي تبدأ نقاشها بالتأكيد على أننا أصبحنا اليوم على اتصال مع كل شيء في كل وقت، ومع هذا فقدنا قدرتنا على ممارسة فن اللقاء. الكمية في العلاقات لا تنقصنا، لكن نوعيتها صارت قليلة. نحن نبذل جهدنا بالطبع، لكننا نفشل. فكم من مرة يهرب الآخر منا؟ نحاول أحياناً أن نتعلم من دروس الماضي، لكننا نعيد الكرة في كل مرة، ونفشل في أن نقيم علاقات معمرة ومخلصة ومفعمة بالاحترام. قد نتقدم مع هذا أحياناً في حين أن بعضنا يتعلم الصمت.
إقامة علاقة فن شديد الصعوبة، لأنه لا يستلزم كفاية محددة، بل يفرض علينا أن نتراجع ونضع أنفسنا في المرتبة الثانية، وعلينا أن نهتم بالآخر بقدر ما نهتم بأنفسنا. اللقاء والعلاقة يستعينان بصفات القلب منا، ليعيدا طرح مخاوفنا وأنانيتنا وعاداتنا على بساط البحث. تحتاج أي علاقة إلى تغذية وصيانة، فهي نادرة وثمينة وهشة وقابلة للكسر. تستدعي كل اهتمامنا وكل مرونتنا وآمالنا.
إليكم باقة منوعة من الأفعال والقيم الجوهرية التي تغلف برقة كل العلاقات الدائمة:
توجيه الشكر إلى الآخر
بالكلام أو بالأفعال أو في داخل القلب بصمت. أشكروا بقدر الإمكان في كل مرة تفكرون بالأمر، لمجرد أن أحداً اهتم بكم وقام بجهد صغير لأجلكم، لمجرد أنكم تمكنتم من القيام بجهد يفوق طاقتكم ولرؤيتكم الابتسامة على وجه الآخر. فكل شيء نتلقاه ونقوم به هو هبة. ولا يكفي أن نقول لأنفسنا إن الآخرين لا يشكروننا لشيء، ففي مجال العلاقات ينبغي دوماً أن نقوم بالخطوة الأولى ولن نمضي حياتنا بانتظار أن يبدأ الآخرون. الحياة طريق طويل من العرفان بالجميل عدم توجيه الشكر ليس فقط ضرباً من قلة التهذيب، لكنه كذلك فعل عنيف فالعالم من دون عرفان بالجميل هو عالم لا يرحم، عالم الحروب الباردة.
العلاقة بداية دائمة
العلاقة الحقيقية والعميقة هي في بدايتها على الدوام. يجب أن نحمل طموحاً تجاه العلاقة وتجاه النفس والآخر وأن نكون متطلبين، مع النفس أولاً وأساساً. فتور العلاقة ليس مؤشراً جيداً للصلات التي تربطنا، فالسلام شعلة دائمة ولا يمكن أن يكون بارداً.
الالتزام بالوعد
والكف عن تقديم الكثير من الوعود التي لا يمكن الوفاء بها. يفضل ترك هامش للمفاجآت الجيدة بدل السيئة منها. فاحترام الكلمة التي نعطيها هي احترام للنفس وللآخر. أن تقول يعني أن تلتزم، الكلمة تلزمنا ولا يجب أن نقول عكس ما ننوي القيام به.
الأمل والثقة
العلاقة المستدامة والحقيقية هي علاقة تحدث تغييراً ولا يمكن مقاربتها من دون ثقة متبادلة. فالثقة تحمي العلاقة وتمكنها من النمو من دون تسارع. ومع هذا كم من مرة نجد أن ثقتنا محل خيانة؟ كم من مرة لا نفي نحن أيضاً بالتزاماتنا ووعودنا؟ من يمكنه أن يقول من دون أن يكذب ولو قليلاً «أنا جدير بالثقة»؟ والثقة التي نسحبها من شخص ما لا يجب أن نسحبها من قلوبنا فهي ستكون من نصيب شخص آخر يحتاج إليها وينتظرنا.
لا تصدر الثقة بأمر منا، هي عبارة عن رهان نضعه على ما لا نعرفه عن الآخر وعليه وعلينا أن نكون جديرين به. «أنا أثق بك» يعني أني "أحمل أملا بخصوصك ولا أخشى أخطاءنا لأننا سنعرف كيف نستعيد الطريق الصحيح معاً".
الدهشة والمفاجأة
الدهشة تعيش دوماً في الحاضر، وهي كالبرق تطلب منا التوقف أمامها وممارسة فضولنا أمام ما يحدث الآن وليس أمام ما سيحدث غداً. ممارسة العادات أمر جيد في حياة أي علاقة شرط ألا نعتاد كل شيء. والدهشة تعني قدرتنا على أن نكون على استمرار مستعدين لمعاكسة العادات ووجهات النظر. فالعلاقة رحلة نقوم بها في مكان واحد، حيث كل يوم فيها هو يوم نشعر فيه بالدهشة ونثيرها لدى الآخر. والعلاقة هي كذلك التخلي عن كل شيء، ما نعرفه وما نفكر فيه وما نظنه حتى نكون مستعدين لما سيمثل أمامنا.
الانفتاح على تأثير الآخر
الآخر يؤثر في حين تتلاقى أفكارنا أو تتعارض وتتحارب وتتواجه خلال تبادلاتنا. معه أسير وقد يحرف مساري عن طريقه وحين أقترب منه أقترب مما هو ليس أنا بعد وأزداد نضجاً.
الابتسامة
عند الولادة نعرف كيف نبتسم لأنفسنا وهذه ميزة نفقدها مع مرور الوقت وما من مدرسة تعلمنا إياها. بيد أن الابتسامة هي الهدية الأولى التي نقدمها للآخرين ولأنفسنا، هي ملح الوجه وتمد جسراً مع الآخر حين يكون القلب معنياً بها. لا تنتظروا أن تكونوا سعداء حتى تبتسموا؛ بل ابتسموا حتى تكونوا سعداء.
وضع مسافة مع الآخرين
الانصهار مع الطفل أو أفضل صديق أو الحبيب هو أكبر عدو في علاقة سليمة لأنه يؤدي إلى الخلط. فمن يقوم بعلاقات من هذا النوع يسعى خلف إساءات تعامل والكثير من خيبات الأمل... متى عرفت كيف أجعل مسافة بيني وبين الآخر أدرك كم أن الفرق بيني وبينه مصدر ثراء لي. من لم يمر بالتجربة الباهرة حين «يرى الآخر مختلفاً تماماً وجديداً عليه من بعد»؟ كما لو أنك في متحف، أنت لا «ترى» اللوحة ولا تدركها في جماليتها الخاصة وأنت ملتصق بها، يجب أن تبتعد عنها حتى تراها حقاً «المسافة تغير النظرة. وحين يتعلق الأمر بكائن بشري، تقوم بالمعجزات» (ليتا باسيت).
الاحتفال بالوجه.. فالوجه يتكلم
هل يرى الآخر وجهي كما أراه في المرآة؟ أبداً وبهذا المعنى، فإن الآخر بالنسبة إلي حيوي كالماء بالنسبة للأسماك. يرد لي الآخر واحداً من آلاف الوجوه التي أحملها. أنا لا أجد نفسي دائماً فيها فبعضها لا أراه وبعضها الآخر يخونني وبعضها الأخير يعلي من شأني. بيد أن كل وجوهي تتحدث عني وكل وجوهي يجب أن تكون جديرة بالحب.
وجهي أمام وجهك، أمام وجه الحبيب أو الصديق أو الشخص الذي لا أعرفه أو الذي يكرهني قد يكون فظيعاً أو سحرياً أو خطِراً. هو وجه يولد من جديد أمام أي لقاء جديد. فوجهنا كما وجه الآخر متجدد على الدوام. الوجه يتكلم بحسب الطريقة التي ينظر بها والطريقة التي يحب بها. مع من نثق به يكون وجهنا منفتحاً ومع من نريد أن نحمي أنفسنا منه ينغلق ويصير غير مقروء. هي وجوه هشة أو مأساوية ونكتفي بأن يكون وجهنا مقبولاً في أغلب الأوقات ونفضل ارتداء قناع ليصبح كذلك. ومن يحب يلتصق بوجه المحبوب كما تلتصق الصدفة بالصخرة. وجه كل واحد منا لا بديل عنه فاعتنوا به وبتعابيره جيداً.
الجرأة
هي جرأة إقامة علاقة جديدة وجرأة عيش تجربة جديدة وتمزيق ما نعرفه وطرح الأسئلة على الذات والاكتشاف من جديد. إعطاء كل شيء أو ربما خسارة كل شيء.
الالتزام
الالتزام لا يعني الشيء ذاته للجميع. كثيراً ما هي كلمة تبعث على الخوف ربما لأن من يلتزم يعتبر نفسه مسؤولاً عن سعادة الآخر. لا يمكن لعلاقة أن تستمر من تلقاء نفسها؛ بل هي تبنى كل يوم من الأيام. ثمة بعد روحي في الالتزام وهو يمنحه قوة. وما يطلبه القلب هو قطع وعد للآخر ومحاولة الالتزام به على الدوام.
الارتباط وفك الارتباط
نظن أننا مقيدون بتسلسل الظروف. في الحقيقة نحن مقيدون بقراراتنا. الإنسان الذي لا خيارات أمامه مجرد قشة ووعد. القيام بخيارات يعني حمل مسؤولية الالتزامات التي تنبع منها.
ليس المطلوب أن تقوم بهذا الشيء بدلاً عن ذاك؛ بل المطلوب أن تكون هذا بدل ذاك. وهذا القرار سري وهو ملك لنا بقدر ما أننا لا نمتلكه. يأتي من داخلنا ومن مكان آخر، لكنه يموضعنا في هذا العالم ويحدد طريقة عيشنا فيه.
يجب عليك أن تختار أن تكون وليس أن تملك أو أن تعمل، لا أن تكوني الأم المثالية أو الزوجة المثالية أو الطبيب المثالي؛ بل أن تكون أنت ببساطة بشكل ملموس ومحسوس هنا في هذا العالم بقلب نابض من أجل القيام بأفعال تشبهك. وهي أفعال أثمن من الذهب والأوسمة أو الاعتراف. قد تكون أفعالاً لا يراها أحد ونعلم بها وحدنا ونفهمها من أجل أن نختار حقيقة ذاتنا ولا شيء سواها.