25 مايو 2023

"قرنة شهوان" و"عين عار" في جبل لبنان.. بلدتان تعاينان أمواج المتوسط وثلوج صنين

فريق كل الأسرة

كما كل بلدات جبل لبنان، ومنطقة المتن في وسطه، تبدو بلدة «قرنة شهوان»، ملحقاً بها بلدة «عين عار» المجاورة التي تشكل معها نطاقاً بلدياً واحداً، صورة بهية لواحة صنوبرية تتوسط تلك المنطقة، بهضابها وأوديتها المكسوة بالشجر الأخضر، صيفاً وشتاء، وبأسطحها من القرميد الأحمر الذي يميز كل أسطح مثيلاتها في الجبل العابق بالطبيعة الخضراء والعمران الجامع بين الطراز القديم التراثي وبين حديث يجمع بدوره البساطة وجمال التقسيمات.

أشجار الصنوبر على مد النظر حتى البحر
أشجار الصنوبر على مد النظر حتى البحر

«قرنة شهوان» هي قلب المتن الأوسط بطبيعته المكتنزة بأشجار الصنوبر والسنديان المنتشرة على سلسلة من الهضاب والأودية التي تسكنها سلسلة من البلدات، تتعالى بدءاً من «الرابية» و«المطيلب»، تقابلها بلدات جميلة اللفظ والمناخ كـ«بيت مسك» و«بحر صاف»، وكلها تختزن مشاهد ساحرة للعين والرؤية ومدعاة لتحفيز الذاكرة على استبصار أقوال مأثورة لبنانياً، عبر الزمان والأيام، ومنها «نيال مين الو مرقد عنزة بجبل لبنان».

ترتفع «القرنة» مع «العين» حوالي 700 متر عن سطح البحر وتبعد حوالي 20 كلم عن بيروت، وهي في هذا الارتفاع تسمح للعيون بأن تعاين أمواج البحر الأبيض المتوسط، في مدها وجزرها وهدوئها، مثل ما لها، في نفس الوقت، أن تعاين ثلوج صنين طالما هي تكلل أعلى قممه.

في سجل «قرنة شهوان» القريب استضافتها للقاء وطني بين عامي 2001 و2005 للتداول في أمور طارئة وتحديات وطنية داهمة، وكأن منظمي اللقاء راموا الاجتماع في بلدة قديمة لها رصيد وسمعة طيبة إذا ما بحث باحث عن هدوء وسلام وطلب راحة للبال والأعصاب في وقت كانت تشتد فيه رزايا الناس وهموم وطنهم.

ولأن الصيف دق الأبواب، وتتزايد التقديرات حول أن لبنان، رغم كل ظروفه الحالية الصعبة، مقبل على انفراج كفيل بالسماح لأبنائه المغتربين، وللرعايا العرب معهم، أن يؤموا مناطقه، خاصة الجبلية منها، زيارة واصطيافاً وسياحة، فإن «القرنة» و«عين عار» تأتيان في مقدم البلدات التي يكثر مغتربوها، وقد تأهلتا لأن تستقبلا أبناءهما، لاسيما وأن أكثرهم جدد ورمم بيوته التراثية القديمة، ففي «عين عار» وحدها تم ترميم ما يناهز المئتي منزل.

في القسم القديم من «قرنة شهوان» طرقات وشوارع فسيحة تشكل نطاقاً بيئياً مؤاتياً للتنزه، وإلى جانب ساحتها الرئيسية يشكل «المربض» فسحة مؤاتية للرياضات والاستمتاع بالطبيعة والطقس المنعش.. وسميت تلك البقعة بالمربض لأن الجيش اللبناني أقام، خلال الحرب الأهلية، مربضاً فيها، وأبقاه بعد الحرب مفتوحاً أمام الزوار ليكون مكاناً للتخفيف من التعب وجالباً للفرح وخالياً من أدوات الحرب. ويكتمل المشهد الطبيعي والخلاب في قرنة شهوان في حي الـ«مونتانا» بفلله وقصوره الواقعة بين غابات الصنوبر.

أما «عين عار» فكانت من أهم البلدات التي زرع سكانها فيها أشجار التوت وصنعوا الحرير، فضلاً عن أن ساحتها كانت مقراً للتجار ومستقراً للقوافل التي كانت تمر في المنطقة من الساحل إلى بسكنتا في أعالي صنين. وقد سميت «عين عار» استناداً إلى العين الشهيرة في ساحتها وإلى انتشار شجر الغار قربها وفي محيطها.

مختار عين عار سامي مندلق
مختار عين عار سامي مندلق

ويشير مختار عين عار المهندس سامي مندلق إلى أنه كان في «عين عار» 3 معامل لتصنيع الحرير أو ما كان يسمى «الكرخانة»، مما جعلها من أهم مراكز هذه الصناعة التي اعتمد عليها اللبنانيون فترة طويلة من الزمن حيث انتشرت زراعة التوت في كل مكان.

كرخانة الحرير التي رممها الرسام وجعلها محترفاً له
كرخانة الحرير التي رممها الرسام وجعلها محترفاً له

ويلفت مندلق إلى أنه لا تزال هناك كرخانة كبرى عتيقة قرب ساحة العين، وساد في السنوات الأخيرة توجه لتحويلها مركزاً للنشاطات القروية والحرفية والثقافية والسياحية والفنية، لكن هذا الحلم حال دونه وجود أصحاب الكرخانة خارج لبنان فبقيت سجلاً شاهداً على عصر كان زاهراً قبل قرن ونيف. ويضيف مندلق أن كرخانة ثانية يملكها رسام لبناني مغترب أعاد ترميمها وحولها محترفاً له وهو يعد فيها رسماته ثم ينقلها إلى نيويورك.

وحول ساحة العين سلسلة من البيوت التراثية التي تعكس أهمية هذا المكان لناحية تجمع الأهالي فيه، وكونه كان محطة القوافل والتجار في آن معاً. وفي هذه الساحة تم إعداد أكبر "جاط" تبولة صيف عام 2000 من ضمن مهرجان «سهرات ساحة العين» وقد أدرج في «موسوعة غينيس»، وبلغ طول "الجاط" 8 أمتار وعرضه 6 أمتار وعمقه 50 سنتمتراً، وشارك في إعداده 150 شخصاً في العمل وأشرف عليهم 8 طباخين محترفين، واستعمل فيه 4515 باقة بقدونس و770 كلغ من البندورة و700 كلغ من الحامض و350 باقة نعنع و35 كلغ من البرغل و200 ليتر من الزيت و50 كلغ من البصل و21 كلغ من الملح و3.5 كلغ من البهار.

ويشير مندلق إلى وجود حوالي 250 منزلاً في «عين عار» من الطراز القديم وقد أعيد ترميم القسم الأكبر منها. وتنتشر في «عين عار» إلى جانب التوت أشجار التين والخرنوب والجوز واللوز والزيتون ودوالي العنب على غرار«قرنة شهوان» وسائر قرى وسط المتن وبلداته. ويشار إلى أن «مدرسة التدريب على السمع والنطق IRAP» في هذه البلدة هي من أهم الجمعيات وأعرقها في لبنان.

وللثقافة والفكر والتربية تاريخها في «قرنة شهوان» حيث أقيم قديماً عدد من المدارس في المنازل، وصولاً إلى تأسيس مدرسة مار يوسف ثم ترميمها من قبل المطران الراحل إلياس فرح عام 1964 مما أحدث نقلة نوعية على مستوى التعليم والثقافة، وكان هذا الصرح أول مدرسة كاثوليكية تعتمد المنهاج الإنجليزي في لبنان ثم تبعها تأسيس مدرسة انغلوفونية ثانية. وكان مسك الختام بإطلاق الفرع الثاني للمدرسة الدولية(ic) في «عين عار» إلى جانب فرعها الرئيسي والتاريخي والأساسي في رأس بيروت الذي تأسس في تسعينيات القرن الماضي بعدما وضعت الحرب الأهلية أوزارها.

وبحسب الباحث جورج الزغبي، لعب المدير العام الأسبق لوزارة التربية، الراحل جوزف زعرور، وهو من أبناء «القرنة»، دوراً أساسياً في ترسيخ قيم التعليم والموسيقى والنهج الإداري السليم لبناء الدولة والاستقامة التي يفتقدها لبنان راهناً على مستوى الدولة وتولي المسؤولية.

أما المحامي فارس الزغبي الذي توفي عام 2015 فكان إلى جانب ريمون جبارة أحد أبرز الرموز الثقافية في قرنة شهوان والمتن، فقد لمع الزغبي في ممارسته مهنته كذلك في التعليم والكتابة والفكر والثقافة والسياسة والصحافة والخدمات الإنسانية والاجتماعية خصوصاً في ظل الحرب اللبنانية. فقد كان فرنكوفونياً من الطراز الرفيع ووضع كتابين بالفرنسية وبشر بالسلم والعيش الأخوي، وكانت له صلاته الوثيقة بشكل أساسي مع كل من العميد الراحل ريمون اده والإعلامي الراحل غسان تويني، إذ كان الزغبي عضو مجلس إدارة جريدة «النهار» وأحد مؤسسي جمعية أصدقاء إبراهيم عبد العال (صاحب أهم مشروع مائي للبنان _ الليطاني) ورئيس المؤسسة اللبنانية للمكتبة الوطنية. ويؤكد جورج الزغبي لـ «كل الأسرة» أن مكتبة فارس الزغبي، التي تحتوي على أكثر من 50 ألف كتاب، منحت لجامعة القديس يوسف عام 2008.


منزل ريمون جبارة

ولريمون جبارة، الذي يقع منزله في أحياء البلدة القديمة وكان ترعرع فيها، حصته الكبرى مع «قرنة شهوان» وأبنائها ومحبيه، إذ يعد جبارة، الذي رحل ربيع 2014، من بين كبار صانعي الإبداع اللبناني، وقد حقق بطاقة هويته من خشب المسرح في التأليف والإخراج والتمثيل والخواطر النقدية والكتابة والتعليم في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، كذلك في أكثر من جامعة خاصة بينها جامعة اللويزة التي أقامت له تمثالاً وأطلقت اسمه على كرسي في مسرحها، كما تمت تسمية إحدى صالات معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية باسم ريمون جبارة الذي عين المدير العام لمجلس إدارة تلفزيون لبنان الرسمي والذي كانت له مقالاته في «النهار» إلى جانب تعليقه الصباحي اليومي النقدي عبر أثير إذاعة «صوت لبنان» بعنوان «الو ستي».

وبعد وفاته قدم له رفيق دربه رفعت طربيه برنامجاً صباحياً عبر أثير الإذاعة نفسها بعنوان: الو ريمون.. ويكشف عمر جبارة، نجل ريمون جبارة، أن العمل جار لإطلاق مؤسسة ريمون جبارة قبل نهاية العام الجاري، ثم سيوهب أرشيفه لإحدى الجامعات لتستكمل لاحقاً خطوات من بينها إقامة متحف له وإطلاق جائزة متخصصة وريادية ستكون متميزة في نوعها، وسيتم الإعداد لذلك كله بالتعاون مع المؤسسات المحلية والدولية المعنية.

* بيروت: شانتال فخري