يعد الروائي ميلان كونديرا، الذي توفي مؤخراً عن عمر تجاوز التسعين، واحداً من أفضل من قاربوا موضوع عاطفة الحب في رواياته المختلفة. فعل ذلك بعمق وهو يتوغل في ثنايا النفس الإنسانية، وما يعتريها من تجاذبات، ومع ذلك فإنه يقطع في روايته «الخلود»: «إن الحب هو ما هو»، كأنه يريد القول إن كل التعريفات ليست كافية لتحديد كنه الحب أو جوهره، فهو يقع خارج دائرة هذه التعريفات، أو أنه عصي عليها، فإما أن نعيشه أو لا نعيشه وكفى.
ولعل كونديرا رمى إلى القول، وهو اللماح لا في التقاط الفكرة فقط، وإنما في بسطها في رواياته، إن «قولبة» الحب في قوالب قد تفسد فكرته، فهو عاطفة لا يصح تبسيطها في مفردات، وإن وجدت للحب من مقاييس فهي من طينته، لا تقوم على المنطق الرياضي، حيث المقدمات المحسوبة جيداً تفضي إلى نتائج محسوبة جيداً هي الأخرى، فعاطفة الحب تحمل في داخلها شحنة جديرة بأن تجعل منه قيمة مطلقة، من تلك القيم التي اعتدنا اعتبارها أمثلة عليا.
وحين سعى «كونديرا» لتعريف المقصود «بالإنسان العاطفي» سخر من أولئك الذين يظنون أنه الشخص الذي يكابد العواطف، لأن الجميع قادر على مكابدة العواطف، فيما الإنسان العاطفي، بتقديره، هو ذاك الذي يضع العواطف في مرتبة القيم، إنه يتباهى بالعاطفة، عاطفة الحب تحديداً، كما يتباهى بأي قيمة نبيلة أخرى، لذا لا يجوز افتعال «معايير» لقياسه، لدرجة قد يصح معها السؤال عما إذا كان مناسباً قول أحدنا: «إنني أحب فلاناً أكثر من فلان»، أي أننا ننطلق من قاعدة واحدة هي قاعدة الحب، ولكننا نفرق في هذه الحال بين درجة وأخرى فيه.
هذا سؤال آخر طرحه «كونديرا» في «الخلود» ولكنه يقطع بأن هذا النوع من المقارنة باطل أو غير جائز، أن تقول إنك تحب واحداً أكثر من الثاني، فذاك يعني ببساطة أنك لا تحب الثاني، وهو بذلك يترك لنا فرصة للتأمل في طبيعة علاقتنا بهذا الثاني التي قد تكون أي شيء آخر سوى الحب نفسه. «المحبوب لا يقارن» – تلك هي الخلاصة التي نصل إليها بنتيجة هذا الجدل، وهي نتيجة إن كان من شأنها أن ترتب أمراً آخر عليها، فإن هذا الأمر لن يكون سوى أن الحب لا معيار له. إن الحب هو ما هو فحسب!
الحب وجد دائماً حيث وجدت الفلسفة، لذا ما أكثر الفلاسفة الذين وقفوا عند عاطفة الحب، ساعين لجلو جوهرها، بدءاً من فلاسفة الإغريق القدماء، وإلى أحدهم، وهو إفلاطون، ينسب القول: «حين نتحدث عن موضوع الحب نفترض أن المحب مأخوذ بالأمر في كليته، لا نسمح لحبه أن يختار جزءاً منه ويرفض الآخر».