تغفو قرية الكاب المصرية على شاطئ النيل في جنوب البلاد كل ليلة، في سكينة تليق بتاريخها العريق، ثم تغفو على حقيقة وحيدة يتفق عليها الجميع، وهي أنها تعد واحدة من أقدم القرى التي عرفتها مصر منذ أزمنة سحيقة، تضرب بجذورها إلى زمن نبي الله يوسف الصديق عليه السلام.
تنتصب قرية الكاب، التابعة لمركز ادفو جنوب مصر، بما تبقى من أسوارها العالية، في المنطقة الواقعة بين الأقصر وأسوان، إذ تبعد عن مدينة الأقصر بكيلومترات معدودة، مستقبلة النيل من جهتها الشرقية، وسلاسل جبال البحر الأحمر من جهة الجنوب، فيما تمتد حقولها الخضراء في شكل شريط أخضر، لا يفصلها عن النيل سوى ذلك الجدار العتيق الذي لا تزال آثاره باقية حتى اليوم، والتي تشير العديد من الدراسات التاريخية إلى أنه ربما يكون الأثر الوحيد الباقي من خزائن الأرض التي اختص الله بها نبيه يوسف عليه السلام، في تلك الأزمنة البعيدة التي كانت تطعم فيها مصر مختلف بلدان العالم، بما تجود به أرضها من خير وفير.
وتعرف العديد من الدراسات التاريخية قرية الكاب باسمها الفرعوني القديم، وهو «نخب»، مشيرة إلى أن تلك المنطقة الفريدة من صعيد مصر شهدت خلال فترات من الزمان واحدة من أهم وأقدم المدن التي عرفتها مصر القديمة، وكرست لـ «آلهة النسر» المعروفة في الميثولوجيا الفرعونية باسم «نخبت»، أي المقيمة في مدينة نخب، التي يجري العمل منذ فترة على قدم وساق للكشف عن مزيد من أسرارها الدفينة في رمال التاريخ.
تجذب ما تبقى من أسوار قرية الكاب، ببنائها المحكم وأسوارها العالية المبنية من الطوب اللبن، أنظار الزائرين بصورة ملحوظة، إذ تشكل تلك الأسوار في كثير من المواقع، ما يشبه المربع الهندسي الذي يبلغ ارتفاع جداره نحو أحد عشر متراً، فيما يبلغ سمكه نحو اثني عشر متراً. ومن اللافت أن هذه الأسوار التي يبلغ طول الواحد منها نحو 550 متراً في بعض المواقع، بنيت بطريقة هندسية تحفظها من عنفوان فيضان النيل الذي كان يضرب مصر في مواسم محددة، عندما يفيض النهر على البلاد فيغرق القرى المتاخمة له، ويروي مساحات شاسعة من الأراضي التي لم تكن تصلها مياه النيل إلا بعد مشقة شديدة. وقد ظلت قرية الكاب بعيدة عن خطر الفيضان، بسبب موقعها الجغرافي الفريد، وما تتميز به من أطلاله ساحرة على النيل من فوق ربوة عالية، يتم الصعود إليها بواسطة سلم حجري يصل ارتفاعه إلى نحو سبعة أمتار.
يفخر كثير من أهالي الكاب بأن قريتهم الصغيرة كانت في وقت من الأوقات عاصمة لإقليم مصر العليا الثالث، وأنها ظلت محتفظة بتلك المكانة الرفيعة لمدة قاربت نحو ثلاثة آلاف عام، قبل أن تتحول خلال فترة حكم البطالمة والبيزنطيين إلى مركز ديني كبير، وهو ما يمكن ملاحظته في العديد من المقابر الأثرية المنتشرة بها، والتي تعود إلى الدولة الفرعونية الوسطى، على نحو ما يبدو واضحاً في النقوش الهيروغليفية التي تتصدر تلك المقابر، إلى جانب الرسوم فائقة الدقة التي تتمثل فيها الحياة اليومية لأصحابها والحياة بعد البعث، فضلاً عن ثلاثين مقبرة أثرية أخرى يطلق عليها مقابر الأشراف، يعود تاريخها إلى فترة حكم الدولة الحديثة، ومن بينها مقبرة الملك أحمس الذي طرد الهكسوس من مصر، والذي تقول العديد من الدراسات إنه ولد في هذه القرية، ودفن فيها بعد موته.
يرجع كثير من الباحثين تاريخ بناء تلك الأسوار العتيقة التي تحيط بالقرية إلى عهد الملك نختنبو الثاني، لكن دراسات أخرى تقول إن تلك القرية ربما يعود تاريخها إلى عصر ما قبل الفراعنة، وهو ما كشفت عنه مؤخراً إحدى البعثات الأثرية التي عثرت فيها على ثلاث لوحات، تضم نقوشاً ورسومات يعود تاريخها إلى حضارة ما قبل الفراعنة، إذ اتخذت تلك النقوش شكل الكتابة في مصر القديمة، قبل ظهور الكتابة الهيروغليفية.
منذ عقود بعيدة، والجدل يدور في مصر، بين كثير من المؤرخين والباحثين، حول الموقع الحقيقي لمخازن وصوامع الغلال التي بناها نبي الله يوسف عليه السلام، والتي تذهب بعض الدراسات إلى أنها ربما تكون تلك الأهرام المتناثرة في العديد من المناطق في مصر، لكن كثير من الباحثين يرجحون أن تلك الأسوار العالية التي توجد في قرية الكاب هي بقايا تلك الصوامع، وهو ما تؤكده تلك الدراسة التي انتهى إليها قبل أكثر من ثلاثة عقود فريق من علماء الآثار برئاسة الدكتورة نادين مولر، أستاذة التاريخ القديم بمعهد الدراسات الشرقية بجامعة شيكاغو، والتي كانت نتاج هذا الكشف الأثري الذي أعلنت عنه في عام 2008، وكان عبارة عن تجمع لسبع صوامع كبرى، يرجح أنها كانت مخصصة لتخزين الغلال، أو تمثل منشأة إدارية ضخمة كانت تستخدم في تسجيل بيانات الحبوب الواردة والمصروفة في ذلك الزمان البعيد.
لكن هل تكفي تلك الدراسة للتأكيد على أن تلك الأسوار العجيبة هي ما تبقي من مخازن الغلال الخاصة بالنبي يوسف عليه السلام؟ المؤكد أن الإجابة لن تكون سهلة، فدراسات كثيرة تذهب إلى أن تلك المخازن التي أنشأها النبي يوسف لتخزين الغلال في سنوات الجدب التي أصابت مصر في هذا الزمان السحيق، توجد لها آثار باقية في عدد من المواقع الأثرية الأخرى، مثل تل اليهودية في محافظة الشرقية، وثانية في منطقة تل العمارنة في محافظة المنيا، وثالثة في مناطق عدة في أسوان، والمؤكد أيضاً أنه لا يوجد دليل قاطع حتى اليوم على موقع تلك المخازن التي قد يكون جزء كبير منها مطمور تلك الرمال، بفعل عوامل الزمن، أو أن تكون قد دمرت تماماً ولم يتبق منها سوى بعض أطلال تثير الحيرة، وتفتح شهية الباحثين وعشاق التاريخ للبحث عن هذا السر الغامض.
* تصوير: أحمد شاكر