13 مايو 2024

بلدة "أنفة" اللبنانية.. سياحة تمتد في البحر وتتوغل في التاريخ والتراث

فريق كل الأسرة

بلدة

«أنفة»، بلدة كبيرة تقع على شاطئ البحر المتوسط، في الجهة الشمالية من لبنان، وتتميّز بمميزات تاريخية عدة، وتراثية، وسياحية، قلّما تتوافر في موقع آخر.

تتجمّع في هذه البلدة عناصر موغلة في التاريخ القديم، وربما ما قبل التاريخ، وأخرى شديدة الحداثة، تتمثّل في المنتجعات الضخمة الفارهة، وما بين التاريخين، تراكمات ممارسات بشرية متنوّعة الأصناف والمشارب، ما جعلها بلدة سياحية بامتياز.

بلدة

تشكّل «أنفة» رأساً ممتداً في البحر على شكل شبه جزيرة، وتبعد 71 كلم إلى الشمال من العاصمة بيروت، وعلى بعد 15 كلم إلى الجنوب من العاصمة الثانية طرابلس.

ووفقاً للأبحاث والتنقيبات التاريخية التي جرت حول البلدة، وعلى مواقعها الأثرية، فقد شكّلت عبر التاريخ موطئ قدم للإنسان الطاعن في القدم، ويظهر ذلك في بقايا إنشاءات للإنسان القديم، منها على سبيل المثال، العديد من الأدراج المحفورة في الصخور أنشئت للتنقل بين أجزاء البلدة المرتفعة، والخفيضة القريبة من الشاطئ، وبقايا غرف وجدران محفورة في الصخور، وكهوف قديمة للسكن، كما تتقدم بعض الأدراج فسحات استخدمت لألعاب القوى، والعروض التي راجت في العصور القديمة، كالعصرين اليوناني والروماني.

بقايا سور القلعة
بقايا سور القلعة

وتفيد أبحاث جرت بين عامي 1945 و1965، ومكّنت من الحصول على بعض الأدوات، بأن الموقع يعود إلى حقبة عصر الحجر القديم الأوسط التي امتدت بين نحو 100000 سنة و35000 سنة تقريباً، قبل الزمن الحاضر.

فالرأس الذي تقع «أنفة» عليه يزيد على خمسمئة متر طولاً، ويمتدّ في بحرها بعرض يصل إلى 120 متراً، وتناقل السكان عن القدماء أنها قلعة استخدمت على فترات متفاوتة في التاريخ.

وبعض العارفين بشؤون «أنفة»، يرجّح أن يكون اسمها مستمدّاً من هذا الرأس الذي يشبه الأنف الذي ينتهي ببقايا جدران من الحجارة القديمة الكبيرة تدل على بقايا القلعة.

خندق يفصل شبه جزيرة أنفة عن البر
خندق يفصل شبه جزيرة أنفة عن البر

«أنفة».. تاريخ عريق وآثار

ينقطع الرأس عن البر من الجهة الخلفية بخندق واسع يناهز الخمسة عشر متراً عرضاً، وارتفاع عشرة أمتار، مع وجود عمود محفور من الصخر في وسط الممر يدل على استخدامه كقاعدة لجسر للعبور فوق الخندق، ويرجح الخبراء أن الخندق الضخم عازل، الهدف من حفره منع الاقتراب من القلعة، وحمايتها من الغزو، في الفترة الفرنجية، المعروفة بالصليبية.

وتشير بعض المراجع التاريخية إلى أنه إثر سقوط طرابلس في أيدي المماليك، أواخر القرن الخامس عشر، تم تدمير قلعة أنفة التي تحولت إلى مقلع لاستخراج الحجارة. وقد شرعت فرق تابعة للمديرية العامة للآثار في وزارة الثقافة اللبنانية، بالتعاون مع فريق من جامعة البلمند، وخبراء أجانب، في البدء بحفريات على مواقع مختلفة من الرأس بغية الشروع في كشف تاريخ التل المعروف بالقلعة.

المعلومات المتوافرة عن تاريخ «أنفة»، تشير إلى وجود 12 برجاً سابقاً للمراقبة على التل الذي يرجح أن يكون كتلة أثرية متراتبة فوق بعضها بعضاً، وفي كل طبقة عصر أثري- تاريخي، وكلما جرى التعمق في الحفر، أشار الأثر الأعمق إلى مرحلة تاريخية أكثر قدماً.

بقايا غرف محفورة في الصخور
بقايا غرف محفورة في الصخور

ومنذ إجراء الحفريات، في أواسط القرن الماضي، سُجِّلت الكثير من المعطيات، أضيفت إلى أبحاث جيولوجية، وتاريخية، وأركيولوجية، تستنتج الكثير من تاريخ البلدة القديم. ويلجأ السكان لتثبيت الهوية التاريخية للبلدة إلى رسائل «تل العمارنة»، حيث تم استنتاج اسم البلدة من لفظات وردت في الرسائل مثل «أنبي»، و«أنبا»، و«نفين»، ويستنتج مهتمون بالآثار الذين بحثوا في تاريخ البلدة أن هذه الأسماء تدل على «أنفة» من خلال تسلسل الأحداث التي توالت عليها عبر حقب تاريخية قديمة.

ومن خلال مواقع المدن التي تقع البلدة على خطها على طول الساحل، غير أن العثور على بعض اللقى الأركيولوجية أثناء تنفيذ بعض الأعمال، والمشاريع العامة في «أنفة»، ومنها بعض البقايا العمرانية المتواضعة، وبعض المدافن الحجرية، والفخاريات، والمسكوكات التي تعود إلى تلك الفترات، تُظهر أن «أنفة» كانت آهلة، ولو كان من المتعذر معرفة أهمية هذا الاستيطان، أو اتساع رقعته.

مدخل كهف
مدخل كهف

وتنتشر على الشاطئ مراكز دينية، ممتدة من العصور الوثنية، فجرى استخدامها في العصور المسيحية اللاحقة، وجرى ترميم معظمها، وتدل على عراقة وقِدم تاريخيين، خصوصاً في أحد المواقع المجاورة لكنيسة تعرف بـ«سيدة الريح» حيث تظهر حفرة كبيرة صخرية وواسعة في الأرض، يرجح أنها خزان للماء، وعلى جنباته ظهرت بقايا رقع فسيفساء تدل على أنها من العصر البيزنطي، ويرجح أنه كانت أرضية لكنيسة كبيرة دمرت، وبقيت أجزاء منها، وجرى ترميم القسم المعروف اليوم بـ«سيدة الريح».

ومن الآثار التاريخية الهامة كهفان صخريان يقعان على مرتفع يعلو عشرين متراً عن سطح البحر، عُثِر فيهما على بقايا حيوانات بحرية كالأسماك، والأصداف المتحجرة، ولا يزال يُعثر على مثيلاتها على التل، ما يشير إلى الحقبة التي كان البحر مرتفعاً فيها عشرين متراً، عن مستواه اليوم.

والكهفان تجويفان كبيران، واحد اسمه كهف «الشق»، والثاني كهف «العمود»، وقد حولّهما ناشط من أبناء «أنفة» إلى متحف للأدوات القديمة المنقرضة، واللقى التي عثر عليها المنقبون.

ملّاحات
ملّاحات

التراث والسياحة في «أنفة»

في التراث، تشتهر أنفة باعتماد أهلها على استخراج الملح من البحر، منذ زمن بعيد جداً، يوم كان الإنسان يستخرج الملح بنقل مياه البحر إلى البر بجرار فخار، على ما تشير العديد من البرك الصغيرة المنتشرة على الشاطئ. لكن مع تقدم العصور، توسعت صناعة استخراج الملح من حاجة منزلية إلى تجارة، فانتشرت على الشاطئ آلاف البرك التي جرت مياه البحر إليها بالضخ بمراوح هوائية.

وقد تراجعت صناعة الملح، والمراوح، إلى حدود الانقراض، والسبب هو المضاربة الخارجية بالملح المستورد بأسعار منخفضة، فأفرغت البرك من مياهها، وحلّت الطحالب محلها، إلا أنه في السنوات القليلة الماضية، أعاد بعض المستثمرين تنشيط صناعة الملح فأحيوا أقساماً من البرك، واستخدموا الطاقة الشمسية في ضخ مياه البحر إليها، إضافة إلى مراوح متجدّدة أحياها أحد حدّادي البلدة.

وأجرت منظمات بيئية مدنية في البلدة محاولات إحياء لصناعة الملح بتجهيز البرك بطواحين الهواء من صنع محلي، فعاد عدد منها إلى العمل وبقي حافظاً للتراث والذاكرة.

بلدة

أما الأبنية في أنفة، فيغلب عليها الطابع التراثي، ويشير بعض منها إلى ثراء شهدته البلدة، وقامت بلديتها بترميم واجهات هذه الأبنية في الشارع العام، وبعض الأحياء الداخلية، لكن الأهالي أخذوا على عاتقهم ترميم منازلهم في بقية الأحياء، محافظين على طابعها التراثي، فبدت أحياؤها الداخلية مرتّبة، ومتجددة مع الحفاظ على الطابع التقليدي.

جانب من «تحت الريح»
جانب من «تحت الريح»

من الطبيعي أن تشكل «أنفة» مقصداً سياحياً نظراً لكمية الآثار التاريخية الموجودة فيها، ونظراً لحفاظها على الطابع التراثي، لكن البلدة تتميز بعناصر سياحية متنوعة، منها وجود منتجعات سياحية عدة، حديثة الطابع، يمكن للزائر المكوث فيها، والتمتع بالبحر في أجواء جميلة وهادئة.

ومن أهمّ ما باتت «أنفة» تشتهر به هو موقع أطلق السكان عليه تسمية «تحت الريح»، وهو خليج صغير ضمن نطاق البلدة، اعتمده السكان منذ القدم للترفيه والصيد، وأنشأوا عليه شاليهات صغيرة خاصة، ما لبثت أن تحوّلت إلى منتجعات سياحية، عليها المطاعم، والمقاهي في تشكيل هندسي عفوي، شعبي الطابع، يضفي على الموقع حميمية جميلة، قلّ نظيرها.

سلالم محفورة في الصخور
سلالم محفورة في الصخور

ويحتضن الموقع معالم أثرية من حفريات في الصخور لسلالم وغرف، وتتواصل أقسامه بممرات ضيقة، وجسور خشبية صغيرة تسهّل العبور بين أقسامه، ونشأت فيه حالة سياحية فريدة نادرة، حيث يمكن للسائح تناول السمك الطازج الذي تشتهر «أنفة» باصطياده، وتنظيفه، وبيعه جاهزاً للأكل في عدد من منتجعاتها، ومطاعمها.

* بيروت: سونيا نعمة