13 يونيو 2024

الحكاية المنسية لكاترين.. مُلهمة عطر "مس ديور" عاشت في ظل شقيقها أيقونة الموضة

كاتبة صحافية

الحكاية المنسية لكاترين.. مُلهمة عطر

ليس من السهل أن تكوني أخت رجل شهير تقصده أميرات العالم لكي يرسم لهن ثياب أعراسهن. تلك كانت مشكلة كاترين، شقيقة المصمم الفرنسي كريستيان ديور. لم يسمع باسمها سوى المقربين منها، في حين أنها كانت الملهمة الحقيقية لكل إبداعات أخيها، وأهمها عطر «مس ديور».

من المسلسل المستوحى من سيرة شقيقها
من المسلسل المستوحى من سيرة شقيقها

ولولا المسلسل الجديد الذي بثته قناة «آبل تي في» تحت عنوان «نيو لوك»، لما انتبه أحد إلى وجود تلك الشخصية المنسية التي عاشت شبابها في فوضى الحرب العالمية الثانية، ومحنة احتلال باريس. وقد أدت دورها في المسلسل الممثلة مايسي وليامس، بينما أدى دور الأخ الممثل الأسترالي بين مندلسون.

كاترين مع العائلة
كاترين مع العائلة

هل ظلمتها شهرة شقيقها كريستيان ديور؟

ليس تماماً. فهو كان يحبها إلى أقصى حد، ومستعدّاً لأن يفعل كل ما تريده. ولولاها لما استمر، ربما، في تصميم كل تلك الفساتين الجميلة التي منحت الألق لباريس في القرن الماضي. لقد كانت فترة الاحتلال صعبة على الجميع، لكن المبدعين والفنانين لم يكونوا متساوين في تعاملهم مع المحتل النازي. وهكذا يكشف لنا المسلسل مواقف شخصيات كان لها دورها في صعود نجم الموضة الباريسية، أمثال بيير بالمان، وكوكو شانيل.

ثم هناك تلك الآنسة التي تحب التواري، وتكره الظهور: كاترين ديور. لقد رأت النور في عام 1917، بعد 12 عاماً من ولادة شقيقها.

ورغم فارق السن فإن التفاهم، بل التكامل، كان كبيراً بينهما. إنها الملهمة التي كانت سجينة في معتقل ألماني خلال الحرب، وهي بائعة الورد في سوق الخضار في باريس. وهي أيضاً «مس ديور»، المرأة التي تعطرت ملايين النساء بالعطر المستلهم منها.

فيلا العائلة في جرانفيل
فيلا العائلة في جرانفيل

كاترين ديور.. تربية صارمة وحرمان

بدأت الحكاية في «جرانفيل»، بلدة جميلة مثل كل القرى الساحرة في مقاطعة النورماندي، شمال غرب فرنسا. كان ألكسندر ديور، وزوجته ماري مادلين، يعيشان حياة طيبة مع ابنهما البكر، في فيلا تحمل اسم «ليرومبز»، تطل مباشرة على ساحل بحر المانش. الأب كان تاجر أسمدة ومياه للتعقيم، جمع ثروة من تجارته. والمنزل جميل، وكبير، تحيط به حدائق مزهرة، وهناك خادمات تحت تصرف الأسرة.

أما الصغيرة كاترين فقد كبرت في باريس. وكان والداها قد قررا قبل ولادتها الانتقال إلى العاصمة للسكن في شقة واسعة تقع في مبنى فخم من مباني الحي السادس عشر. وفي باريس ولد شقيقها برنار. وبهذا فإن الفيلا السابقة كانت بالنسبة إليها منزلاً لقضاء الإجازات في الفضاء الفسيح.

تلقت كاترين ديور تربية صارمة. عاشت محرومة من الحنان. وبينما لازمت البنت البيت، فإن شقيقها تمتع بحرية أوسع، وكان يتردد على الأوساط الفنية والأدبية، وافتتح صالة للعرض الفني بالشراكة مع صديقه جاك بونجان.

مع هذا، فإن العلاقة مع الأخت بقيت مميزة. لقد كانت تشبهه في حساسيتها الفنية، وفي حبها للأزهار والبستنة. الحديقة بالنسبة إليها حاجة أساسية. وكانت تمارس تلك الهواية في منزل العائلة في النورماندي. لكن الزمن كان يخبئ لهما أوقاتاً صعبة. ففي ربيع 1931 توفيت والدتهما فجأة، وهي في حدود الخمسين من عمرها. أما الابن الأصغر برنار فقد أدخلوه مصحاً للأمراض العقلية. وبسبب سوء الإدارة خلال أزمة البورصات العالمية عام 1929، اضطر الأب موريس ديور، إلى إعلان إفلاسه ومغادرة الشقة الباريسية الفخمة، والانتقال للسكن مع كاترين في جنوب البلاد، بعيداً عن العاصمة.

وهناك وجدت البنت الشابة نفسها تجرب حياة التقشف التي لم تعرفها من قبل. ومع بلوغها الثامنة عشرة، دعاها شقيقها كريستيان لكي تلتحق به في باريس ومساعدته في العمل. عاشت في بيت أخيها حياة أكثر تحرراً.

كانت الرياح السوداء للحرب العالمية تلوح في الأفق. ثم وصلت إلى باريس. واضطر الشقيقان للتباعد لفترة من الزمن. عادت كاترين إلى جوار أبيها، واستدعي كريستيان لأداء الخدمة العسكرية. وحال تسريحه عاد إلى العاصمة التي كانت محاصرة، وعمل مع مصمم الأزياء لوسيان لولون. وكان يساعد شقيقته الموجودة في الجنوب، مالياً وحسب ما تسمح به إمكاناته.

وفي تلك الفترة من الحرب عاشت كاترين ديور من دون كهرباء، تزرع حديقة البيت الصغيرة بالفاصوليا الخضراء والبازلاء، لكي تأكل وتطعم أباها. مع هذا فإن تلك الظروف كانت أهون مما ينتظرها من جحيم.

ففي ربيع 1941 رغبت المرأة الشابة في شراء مذياع، أي جهاز راديو لكي تستمع إلى نداءات الجنرال ديغول التي يوجهها من إذاعة «بي بي سي» وهو يقود المقاومة، وقوات فرنسا الحرة من لندن.ويشاء حظها أن تقع في حب بائع المذياع، وترتبط بعلاقة معه. كان اسمه هيرفيه دو شاربونري. وكان منتمياً للمقاومة، وقد لحقت به في نشاطه، والتحقت بإحدى الخلايا.

الحكاية المنسية لكاترين.. مُلهمة عطر

اعتقال وتعذيب

كان الألمان يقودون حملات لاعتقال المقاومين الموجودين على الساحل الجنوبي لفرنسا. وقد تلقت كاترين رسالة مشفرة تدعوها إلى العودة إلى باريس حيث ستكون في أمان.

وهي قد استخدمت طوال عامين شقة شقيقها لكي تستقبل رفاقها، وتقوم بدور حلقة الوصل بينهم، وتجمع التبرعات، وتنقل التقارير حول تمركز القوات الألمانية في العاصمة. كل تلك المهمات الخطرة أدت بها إلى الاعتقال ذات مساء صيفي رائق من عام 1944، حين كانت على موعد مع أحد رفاقها قرب ساحة «تروكاديرو».

ففي الطريق إلى الموعد اعتقلتها قوة من «الجستابو»، وعصبت عينيها، واقتيدت إلى المركز الرئيس للشرطة الألمانية، في شارع «لا بومب». أما كريستيان ديور فقد كاد يموت رعباً من احتمال فقدانه للأخت الصغيرة الحبيبة.

في المعتقل تعرضت كاترين للتعذيب لعدة أيام لكي تعترف بما تملكه من معلومات عن خلايا المقاومة. لكنها تحمّلت ولم تتكلم. وبهذا فقد جرى نقلها إلى معتقل في ألمانيا. وقد حاول شقيقها المستحيل لكي ينقذها من القطار الذي نقل شحنة من السجناء، قبل مغادرته الأراضي الفرنسية، دونما جدوى. وصلت أخته إلى معتقل «رافنزبروك»، وكانت من القوة بحيث كتبت لها الحياة لكي يجري تحريرها بعد انتهاء الحرب.

عادت إلى فرنسا هزيلة جداً وأقامت مع شقيقها. (اضطرت الممثلة التي قامت بدورها في المسلسل إلى إنقاص وزنها 12 كيلوجراماً لتؤدي هذه المشاهد). تفرغت لمساعدة عائلات المعتقلين في العثور على أبنائها وأقاربها المفقودين. وفيما بعد، لم تتحدث كاترين ديور عن تلك السنوات السود، وكتمت ذكرياتها وواصلت الحياة، كأن شيئاً لم يكن. لم تخترع بطولات، لكن فرنسا كافأتها بميداليتين، وبوسام الشرف.

في المسلسل، نرى كريستيان ديور، وهو يفعل كل ما في وسعه لإنقاذ كاترين من الأسر. لقد استخدم كل علاقاته، وجازف بحياته، ووصل حافة اليأس، بحيث راح يستشير العرافة مدام دولاهي التي قالت له: «شقيقتك على قيد الحياة. وستعود». وقد آمن بما قالت، وتمسّك بالأمل، وراح ينتظر عودتها، ويواصل عمله كمصمم.

وكان قبل ذلك يرفض خياطة أي ثوب. ثم قبِل عرض أحد تجار الأقمشة لتأسيس دار للأزياء تحمل اسمه. وأعطاه التاجر 6 ملايين فرنك، لكن ديور كان يجد صعوبة في العمل وشقيقته سجينة. وحال تحريرها استعاد نشاطه وإلهامه، وبعد سنتين، أي في عام 1947، قدم أول عرض لأزيائه في الرقم 10 أفينو مونتين.. العنوان الذي ما زال يحمل اسمه حتى اليوم، وتحفظه كل أنيقات العالم.

الحكاية المنسية لكاترين.. مُلهمة عطر

ولادة «مس ديور»

في العام ذاته أطلق المصمم أول عطر له، لكنه تحيّر في العثور على اسم له. ثم ذات يوم دخلت عليه شقيقته كاترين في مكتبه، فما كان من مستشارته ميتزا بريكار، إلا أن صاحت: «مس ديور.. هذا هو الاسم الذي تبحث عنه». وصفّق المصمم وقال مبتهجاً: «هذا هو»! كان اسماً على مسمى، لأن خلاصة الياسمين المستخدمة في العطر كانت الزهرة المفضلة لشقيقته، لأنها تعيد لها ذكريات حديقة العائلة في «جراندفيل».

لم تغير كاترين ديور طباعها، وظلت تهرب من الأضواء، ومن الصحفيين، والكاميرات. كانت تتضاءل كلما كبر ظل شقيقها. وقد افتتحت مع شريك حياتها هيرفيه، متجراً للأزهار.

نعم، لقد عثرت على هيرفيه بائع المذياع بعد عودتها من المعتقل. وقد اشترى الزوجان مزرعة يزرعان فيها أنواعاً من الورد الذي يستخدمه ديور في عطوره. وهناك، في مزرعتها، وصلها خبر وفاة شقيقها، عام 1975. ومنذ ذلك الحين ولغاية وفاتها عام 2008، عاشت تحمي إرث ديور، لاسيما الحفاظ على فيلا «جرانفيل» في النورماندي التي جعلت منها متحفاً له. وقبل رحيلها بفترة وجيزة، حملت إلى شركة أخيها آخر باقة من أزهار حديقتها.

اقرأ أيضاً: يوم سارت كوكو شانيل بثياب النوم وهي تبكي.. سيرة مصممي الأزياء وفضائحهم تجتاح الشاشات