تقابل «مدحت» مع «عفاف» صدفة أو قدراً في مول تجارى كبير بالقاهرة فانبهر بها وأصر على أخذ رقم هاتف أمها بعد أن أقنعها بأنها فتاة أحلامه التي يبحث عنها ووعد بالحضور مع أسرته لخطبتها خلال أيام. وفعلا حضر «مدحت» بعد يومين مع والديه وخطبها، وبعد فترة وجيزة من الخطبة طلب تحديد موعد للزفاف ووافقت أسرة العروس رغم طلب الفتاة بإعطائها مهلة للتعرف إلى طباعه وخصاله ومدى توافقها مع طباعها، ولكن أسرتها نهرتها وأكدت لها أنه عريس «لقطة» ولابد أن تظفر به قبل أن يخطفه غيرها، حيث بهرهم بسيارته الفارهة وهداياه الثمينة، وبالفعل تم الزفاف وبعد أسبوع مر على العروس كأنه دهر عادت فجراً إلى أسرتها باكية من سوء تعامله، حيث يتعامل معها كأنها جارية وينتقدها في كل تصرفاتها وأبلغت أسرتها باستحالة العودة إليه.
لكن بعد ممارسة ضغوط شديدة من أسرتها عادت «عفاف» لمنزل الزوجية بعد أيام «مكرهة» وفى اليوم التالي تلقت أسرتها خبر قتلها على يد زوجها وهروبه عقب ارتكاب جريمته.
هذه الجريمة المأساوية أغضبت كل من تعرف إلى تفاصيلها، وتداولها البعض على مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنها أثارت غضب علماء الإسلام الذين وقفوا على تفاصيلها لتجاهل أسرتها كل التوجيهات الإسلامية التي تؤكد ضرورة الاهتداء بهدي الإسلام الذي شرع الخطبة، ليتعرف كل من الطرفين إلى الآخر.
"شرع الإسلام الخطبة قبل الزواج وجعلها مرحلة مهمة فى حياة كل طرفين ينشدان السعادة الزوجية"
في البداية، يؤكد د.عباس شومان، أستاذ الشريعة الإسلامية ووكيل الأزهر السابق، أن أسرة هذه المرأة «المسكينة» جنت عليها مرتين: الأولى عندما وافقت على زواجها سريعاً من شاب لم تتعرف إلى خصاله وطباعه جيدا بعد أن خدعهم بمظهره وهداياه.. والثانية عندما أجبرتها على الرجوع إليه بعد أن هربت من جحيمه، وكان ينبغي هنا أن تصحح الأسرة غلطتها الأولى، وتبحث أسباب نفور ابنتهم من زوجها سريعاً، والاستجابة لطلبها بالانفصال عنه، فالحياة مع هذا الإنسان قاسي الطباع تخصها هي ولا تخص أسرتها، ولابد أن تكون العودة برغبتها وعن قناعة منها.
ويؤكد د.شومان أن هذه الجريمة الأسرية تنبهنا إلى حقيقة مهمة وهي ضرورة الاهتداء بتعاليم الشريعة الإسلامية، حيث شرع الإسلام الخطبة قبل الزواج وجعلها مرحلة مهمة فى حياة كل طرفين ينشدان الاستقرار والسعادة الزوجية، فالخطبة مقدمة لعقد الزواج، وقد شُرعت ليتعرف كل واحد من المخطوبين إلى الآخر، ويطمئن إلى استقرار زواجهما بتقارب الطباع والرغبات، والتشاور حول موضوعات قد تمثل نقاط خلاف بعد الزواج وتؤثر في استقرار الحياة الزوجية واستمرارها، كنوع تجهيز مسكن الزوجية وما يتحمله كل طرف من ذلك، والإقامة مع العائلة، والسفر خارج محل الزواج للعمل ونحوه، وكيفية تعامل كل طرف مع أهل الآخر، كاشتراط زيارات معينة، وعمل الزوجة، ودراستها، ومستوى المعيشة والنفقة المطلوبة، وغير ذلك من أمور.. فإن اطمأن كل طرف لملاءمة رغباته مع الآخر وتوجهاته وطريقة تفكيره وحالته النفسية والانفعالية وغير ذلك من أمور، أقدم على عقد الزواج مطمئنًا إلى استقرار زواجه وتحقيق مقاصده، وإن رأى أي منهما غير ذلك فإنه يمكنه الإنهاء الفوري للخطبة وكأنها لم تكن، حتى لو كان الطرف الآخر متمسكاً بالخطبة ورافضًا لإنهائها.
لا يتم الزواج إلا بعد أن تتلقى أسرة الفتاة ما يؤكد رغبتها الكاملة في الاقتران به
ويؤكد د.شومان أن مقصود الخطبة نبيل، وهو تحقيق مصلحة الزواج، والحد من حالات الطلاق الناشئ عن اكتشاف اختلاف طباع وسلوكيات الطرف الآخر، وعدم القدرة على التوافق معها، وفى فترة الخطبة ينبغى الوقوف عند تعاليم شريعتنا الغراء، فلا خلوة بين المخطوبة وخطيبها، ولا خروج من المنزل إلا فى صحبة بعض أفراد أسرتها، وطالما كان هناك التزام بتعاليم الإسلام فلا حرج من طول فترة الخطبة، ولا يتم الزواج إلا بعد أن تتلقى أسرة الفتاة ما يؤكد رغبتها الكاملة في الاقتران به.
"على الجميع أن يدرك أن البيوت لا تبنى على الإكراه ولا على الكراهية"
وتؤكد العالمة الأزهرية د.عبلة الكحلاوي أن الاستقرار الأسري لا يمكن أن يتحقق دون وجود «مودة» بين الطرفين، وهذه المودة التي ذكرها الخالق سبحانه في النص القرآني السابق تعني وجود مشاعر عاطفية وتفاهم يربط بين قلبي الزوجين ويؤلف بينهما، والحب من أسمى العواطف التي ينبغي أن تشيع في العلاقة بين الزوجين، وهو لا يعني وجود علاقة عاطفية قبل الزواج كما يتوهم البعض، فالحب يتحقق بعد الزواج بالمعاملة الطيبة والحرص على الحقوق الزوجية المتبادلة بين الطرفين، وبإكرام الرجل لزوجته وإحسانه إليها والإحسان إلى الزوجة من أسمى صور العطاء والإحسان في الإسلام.
تقول د.عبلة «لا شك أنه كلما سادت المعاني النبيلة (السكن النفسي ـ المودة ـ الرحمة) بين الزوجين ستختفي الخلافات والمشاحنات والجرائم التي اقتحمت الحياة الزوجية وحولت حياة كثير من الأزواج والزوجات إلى جحيم، وعلى الجميع أن يدرك أن البيوت لا تبنى على الإكراه ولا على الكراهية، إذ لابد من احترام مشاعر الطرفين، لذلك كان من توجيهات الإسلام منذ البداية استطلاع رأي المرأة، وعدم تزويجها إلا برغبتها، وأن تترك لها حرية الاختيار كاملة دون تأثير من أحد، وإذا ما أكرهتها الأسرة على زواج لا ترغب فيه ولا تستريح له، وعانت الابنة من زوج لا يقدر العلاقة الزوجية، ولا يحسن التعامل مع زوجته، وطلبت المرأة الطلاق للتخلص من تلك الحياة التي تكرهها، فعلى الأسرة الاستجابة لها، وتصحيح ما سبق وارتكبته فى حقها من خطأ كبير.. فإكراهها على الاستمرار مع رجل لا تريده، وتجد حياتها معه مستحيلة، فيه استمرار لإهدار أهم حق من حقوقها وهو اختيار من تستريح للحياة معه».
"الشريعة الإسلامية تحترم الإرادة الحرة لكل من الرجل والمرأة فى مسألة الزواج"
العالم الأزهري د.حسن الصغير، أستاذ الشريعة الإسلامية ووكيل كلية الشريعة والقانون بالجامعة الأزهرية، يؤكد رفض الإسلام لكل صور الإكراه على الزواج، سواء مورس هذا الإكراه على شاب أو فتاة، ويقول «الشريعة الإسلامية تحترم الإرادة الحرة لكل من الرجل والمرأة فى مسألة الزواج، لأن الزواج تحكمه مشاعر وأحاسيس، فهو شراكة روحية عاطفية وليس شراكة تجارية، فلا يكره شاب على الزواج من فتاة لا يريدها، كما لا تكره فتاة على الزواج من شاب لا تريده، أو لا تستريح إليه.. لذلك ينبغي أن تكون هناك رغبة مشتركة من الطرفين، ولكي تتحقق هذه الرغبة أو تنتفى لابد من إعطائهما الفرصة كاملة للتعارف والتلاقي، أو التأكد من عدم وفاقهما ليذهب كل منهما إلى حال سبيله، دون عجلة في هذا الأمر، فمعظم حالات الزواج التي شهدت عجلة ولم يسبقها تعارف وتلاق حقيقي كان مصيرها الفشل».
ويضيف «لا ينبغي التدخل من جانب الأسرة لفرض شريك حياة لا يريده الطرف الآخر، فهذا أمر يرفضه الإسلام ويدينه حرصا على حرية كل من الرجل والمرأة، فالحياة الزوجية ليست رحلة قصيرة وسيذهب كل منهما إلى حال سبيله بعدها، بل هي رحلة حياة طويلة وسيعيش كل منهما مع شريك حياة أكثر مما عاش مع والديه وأشقائه، ولذلك ينبغي أن يطمئن كل منهما قبل الإقدام على الزواج أن شريك الحياة هو الشخص المناسب لتكملة الحياة معه». من هنا يؤكد أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر على الاختيار بحرية ودون أية ضغوط على الطرفين، وخاصة المرأة حيث أعطاها الإسلام- باعتبارها الطرف الأضعف- وسائل حماية من بينها رفض إكراهها على الزواج من رجل لا تريده».
وأكمل «وهنا ننصح كل أسرة بأن تقف عند حدود الشرع في التعامل مع زواج الإبنة، وأن تقدم لها النصيحة، وتتركها تختار بمشاعرها وعقلها وقلبها، فهي التى ستعيش مع هذا الشخص، ولابد أن تكون مقتنعة تماما به، ولو تعجلت هي ووافقت دون تدقيق، فستتحمل نتيجة اختيارها وليس الأسرة».