حذر علماء أزهريون من مبالغة البعض في مؤخر الزواج دون مقدرة مادية على الوفاء.. ووصفوا ذلك بـ (الفشخرة التي لا يقرها الشرع)، وأكدوا أن المهر المؤجل دين في ذمة الزوج، ولا ينبغي أن يكبل إنسان عاقل نفسه بما لا يستطيع من أجل سباق محموم في مظاهر خادعة، كما لا يجوز لولي العروس مطالبة زوج تتوفر فيه المطالب الشرعية بما لا يستطيع جرياً وراء مظاهر اجتماعية لا يقرها الشرع، حيث حث الإسلام على تيسير الزواج بكل السبل.
زواج في ضوضاء .. وطلاق في صخب
يقول د. علي جمعة ، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر السابق، "للأسف من وقت لآخر نقرأ ونسمع عن حالات زواج غريبة لا يقرها عقل ولا شرع، حيث يكبل بعض الأزواج أنفسهم بمؤخر زواج لا يستطيعون الوفاء به، فمنهم من يحدد لعروسه ملايين، ومنهم من يكتب لها أرقاماً خيالية ليكون زواجهم محل حديث وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ثم تأتي المشكلة بعد شهور أو سنوات، لأن مثل هذه الزيجات التي تبنى على أسس غير شرعية لا تستمر كثيراً، فيحدث الطلاق وتبدأ المفاوضات حول المؤخر، وقد لا يتفق الطرفان لينتقل الصراع بين الزوجين إلى ساحات المحاكم.. وكما تزوجوا في ضوضاء وكان زواجهم حديث الناس، سيكون طلاقهم في صخب وحديث الجميع أيضاً، ورباط الزوجية في عقده وفي حله أسمى من ذلك".
زواج أم صفقة تجارية؟
ويوضح د. جمعة، أن الإسلام قد شرع المهر وجعله من الحقوق الواجبة على الزوج لزوجته، تطييباً لخاطرها وجبراً لمشاعرها، وتآلفاً لقلبها خاصة حينما يقدم الرجل لامرأته ثمرة عرقه وجهده وهو المال، ولهذا يقول الله تعالى: "وآتوا النساء صدقاتهن نحلة"، ومع أن المهر لا حد لأكثره، ويترك لتقدير الزوج ومدى اعتزازه بزوجته، إلا أن الإسلام رغّب في التيسير في المهور تشجيعاً وترغيباً في الزواج كي يعف الرجل نفسه، وتصون المرأة نفسها، ويصل الإنسان إلى تحقيق الغريزة عن طريق مشروع، ويتسامى الرجل والمرأة بغريزتهما فلا ينحرفان بها عن الطريق المستقيم، وإنما يلتزمان بما أمر الله به، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يؤكد ذلك بكلامه وتوجيهاته وتصرفاته.
ويعبر عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر عن دهشته من المبالغة في مقدم المهر أو مؤخره، موضحاً "هناك بعض الأسر التي تتفاخر بقيمة المؤخر، وقائمة المنقولات الذهبية، وكم الذهب والمجوهرات والهدايا التي يغدق بها الزوج على زوجته، ومع أن كل ذلك لا حرج فيه شرعاً طالما كان الزوج ميسور الحال، إلا أن بعض أسر الزوجات تطالب بأمور غريبة تتعلق بالمؤخر، وكأن الزواج قد أصبح (صفقة تجارية)؛ بل قد تطالب بعض الأسر الزوج بالتوقيع على شيك على بياض، أو يدون فيه المبلغ المغالي فيه، ليتحول الأمر من الحقوق المدنية إلى الحقوق الجنائية!!".
ويضيف "الأسر الواعية تبحث عن الرجل المناسب لابنتهم والذي يفي بحقوقها، ويحميها ويصونها، ويصبر على هفواتها، ويتحمل طباعها، وليس الشاب الطائش الذي يمتلك المال فيأخذ نزوته من الفتاة ثم يلقيها لأسرتها بعد أن تنضم إلى قائمة المطلقات، والإنسانة ذات المشاعر الراقية لا تعوضها الأموال ولا الممتلكات بعد الطلاق".
لا تنساقوا خلف التفاخر والتباهي
د. علي عثمان شحاتة، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، يؤكد أن المهر لا يقصد به الشرع التفاخر والتباهي كما تستهدف بعض الأسر الآن، حيث تنشغل بعض الفتيات وأسرهن بالمظاهر الشكلية التي تصاحب الزواج، والأسرة الرشيدة لا تنشغل بالأمور المادية بقدر انشغالها بالبحث عن الزوج الصالح الذي تطمئن إليه، وتعيش معه ابنتها في سلام وأمان، بغض النظر عن كونه غنياً أو صاحب جاه وسلطان، فالمهم أنها تتمسك بصاحب الدين والخلق.
ويواصل "للأسف المهور أصبحت شكلاً من أشكال التباهي والتفاخر، وأصبحت المرأة أو أسرتها تطلب مهراً كبيراً ومؤخراً ضخماً لا لشيء سوى التباهي والتفاخر أمام مثيلاتها من النساء، ولما كان هذا الأمر فيه مغالاة، فإنه قد يترتب عليه عزوف الشباب عن الزواج هرباً من القيود الثقيلة التي يكبل بها الزوج".
ويتساءل د. شحاتة "أيهما أولى لأولياء الأمور، أن تظل الفتاة دون زواج أم أن ييسروا زواجها حتى تقوم حياة زوجية جديدة على أسس دينية وخلقية صحيحة؟!".
ويذكّر أستاذ الثقافة الإسلامية بالأزهر كل الأسر بأن العلاقة الزوجية علاقة مقدسة وعقد الزواج سماه الله ميثاقاً غليظاً، وقال تعالى عن هذه العلاقة: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»، ومما يتنافى مع قدسية الزواج أن تدخل المهور في نطاق التفاخر والمباهاة من حيث الكم والقيمة ونحو ذلك، سواء كان المهر حالاً أو مؤجلاً، ولا شك أن مؤخر الصداق حق للمرأة يحل بالأجل المذكور في العقد إذا حدد له أجل، وإذا لم يحدد له أجل يحل بأقرب الأجلين الطلاق أو الموت، ويصير ديناً في ذمة الزوج، يسأل عن قضائه حال حياته بالفراق، أو يخرج من تركته قبل تنفيذ الوصايا وتوزيع التركة.
ولذلك يحذر أستاذ الثقافة الإسلامية بالأزهر من المبالغات في مؤخر الصداق، وذلك لتساهلهم في قيمته بظن أنه غير مطالب به، أو ربما لا يستبعد العريس السداد حال حياته، لكن عند الفراق يجد نفسه أمام خيارين إما السداد وإما الحبس، وبهذا تتحول هذه العلاقة المقدسة إلى صراع مرير ينتهي غالباً بما لا تحمد عقباه، وكأن الزواج صار عند بعض الأسر مشروعاً تجارياً لا أكثر.