امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بتفاسير وتأويلات مغلوطة لنصوص القرآن الكريم، سواء أكانت من عناصر متشددة تلوى ذراع النصوص القرآنية لكي تتوافق مع أهدافها وأغراضها في نشر التطرف والتشدد بين الناس، أو كان مصدرها أشخاص يستهدفون مسخ الأحكام الشرعية وتشويه المقاصد الحقيقية لتلك النصوص، وهو ما دفع الأزهر إلى تحذير رواد الـ«سوشيال ميديا» من المسلمين وغير المسلمين من تلك التفاسير المغلوطة، فتفسير القرآنِ الكريم علم ينبغي ألا ينزل ميدانه أو يخوض غماره إلا عالم متمكن من علوم الشريعة وآدابها، متمكن من آلاتها وأدواتها، وقد اشتد نكير النبي، والصحابة والعلماء من بعده على من يفسرون القرآن بآرائهم المجردة؛ دون استناد إلى دليل شرعي معتبر، أو احتكامٍ إلى وجهٍ لغوي مُعتَمَدٍ، فقال: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ أَوْ بِمَا لَا يَعْلَمُ؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
توجهنا نحو عدد من علماء الأزهر الشريف نلتمس منهم الطريق الصحيح للتعامل مع نصوص القرآن الكريم وأسهل الطرق للاهتداء بما يحمل من هدايات وأحكام شرعية، وكنز لا ينضب أبداً من القيم والأخلاق الفاضلة.. وفيما يلي خلاصة ما قالوه ونصحوا به:
ارجعوا إلى أهل العلم للتفسير
في البداية، يؤكد العالم الأزهري د. أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء، ضرورة أخذ العلوم الشرعية من العلماء المتخصصين فيها، المؤهلين للحديث في تفاصيلها.. ويقول «تفسير نصوص القرآن الكريم علم واسع يحتاج إلى تخصص دقيق، والذين يقرأون نصوص كتاب الله الخاتم ليوضحوا معانيها ودلالاتها هم العلماء وليس الأدعياء، ولذلك دائماً ننصح جماهير المسلمين في كل مكان بأن يأخذوا الأحكام الشرعية والدلالات الصحيحة لنصوص القرآن من أهل العلم، وهم كثيرون ينتشرون في كل بقاع الأرض. كما ننصح غير المسلمين الذين يريدون معرفة موقف القرآن الكريم منهم أن يرجعوا أيضاً إلى أهل العلم الصحيح، وليس إلى المتشددين الذين ينقلون أحكاماً غير صحيحة عن علاقة القرآن بأهل الكتاب».
ويضيف «التفاسير الصحيحة للقرآن موجودة وميسرة، ومنتشرة عبر صفحات المؤسسات الإسلامية، وكل من يريد معرفة تفسير آية أو نص قرآني عليه أن يعود إليها وهو أمر سهل، وسيجد فيها التفسير الصحيح للنص القرآني، وسيتعرف أيضاً إلى الأحكام الشرعية الوسطية التي تبناها القرآن ونشرها بين المسلمين وغير المسلمين منذ نزول جبريل به وحتى اليوم».
حديث القرآن محفوظ من كل صور التبديل والتغيير والتحريف الذي يلجأ إليه أصحاب الهوى
ويوضح العالم الأزهري أن أروع ما في كلام الخالق سبحانه هو مصداقيته، وقدرته على مخاطبة كل الناس، بصرف النظر عن مستواهم الفكري والثقافي.. فحديث القرآن هو حديث الصدق في أسمى درجاته، وحديث الطهر في أنقى صوره، لأنه مصون من كل المؤثرات، محفوظ من كل صور التبديل والتغيير والتحريف الذي يلجأ إليه أصحاب الهوى، والحق سبحانه وتعالى يقول: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، فكتاب الله الخاتم محفوظ مصون، لا يستطيع أحد مهما كانت بلاغته أن يأتي بمثله، أو ببعض آياته، وقد حاول الكثيرون وعادت محاولاتهم عليهم حسرة وندامة، وصدق الحق عز وجل حيث يقول: «إنه لقرآن كريم. في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون. تنزيل من رب العالمين».
واجبنا.. تعظيم القرآن
ويوضح د. هاشم واجب كل مسلم تجاه القرآن الكريم «واجبنا تعظيم القرآن والاهتداء بهديه، وفهم معانيه الصحيحة من أهل العلم وليس من الأدعياء، كما أن واجبنا أن نتلوا القرآن ونستمع إليه بخشوع وتواضع وتأمل لمعانيه، والله سبحانه وتعالى هو الذي يأمرنا بذلك فيقول سبحانه: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون». علينا أن نتعامل مع القرآن الكريم على أنه دستور حياتنا، فهو من أجل النعم الإلهية وأولها، ولذا صدر الرحمن حديثه عن القرآن في صدد تعداد النعم الوافرة فذكره قبل نعمة النطق وغيرها من النعم والآلاء، فقال: «الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. الشمس والقمر بحسبان. والنجم والشجر يجسدان. والسماء رفعها ووضع الميزان».
وحين سمع الإمام علي - كرم الله وجهه - رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون فتن».. سأله عن المخرج من الفتن؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: «كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا: «إنا سمعنا قرآناً عجباً» من علم به سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم».
معجزة القرآن
د. سلامه داود، رئيس جامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية، يضم صوته لصوت د. هاشم ويحذر من ترويج منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تحمل مفاهيم مغلوطة لمعاني ومقاصد القرآن الكريم، ويبين «من يفعل ذلك يلحقه الإثم، وسينال عقابه من الخالق سبحانه، لأنه يسهم في تضليل الناس، وصرفهم عن الهداية الحقيقية للقرآن؛ إذ لا يدرك المعاني الحقيقية لنصوص القرآن إلا العلماء الذين درسوا علوم التفسير ووقفوا على جهود المفسرين في مختلف العصور، وعلموا بأسباب النزول، ويحملون من العلم والفهم والوعي، والقدرة على إدراك إعجاز القرآن.. فالقرآن الكريم كلام رب العالمين، وهو معجز في لغته، ومعجز في معانيه، وبعض آيات القرآن معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث اكتملت فيه كل ملامح البلاغة والبيان، وسط قوم ملكوا زمام الفصاحة، فجاءهم بمعجزة من نوع ما برعوا فيه، فعجزوا عن الإتيان بمثله، يقول سبحانه وتعالى: «وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين»؛ بل إن التحدي كان للإنس والجن من الإتيان بمثله واضحاً، قال تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً»، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة».
واجبنا أن نحذر مع إيماننا الكامل بأن الله حافظ لكتابه
ويشدد رئيس جامعة الأزهر على أن كتاب الله محفوظ معنى، كما هو محفوظ نصاً، ففي كل عصر نجد الآلاف من علماء المسلمين المتخصصين في علوم التفسير، وهم يبذلون جهودهم لحماية المعاني الصحيحة لكتاب الله الخالد، ومنهم المئات في جامعة الأزهر وحدها، وهؤلاء هم درع الحماية والأمان للمعاني الصحيحة للنصوص القرآنية، فليس هناك ما يدعو إلى القلق عل كتاب الله، لكن توعية جماهير المسلمين في كل مكان واجبة لحماية عقولهم من التفسيرات المغلوطة، والتأويلات المتطرفة لنصوص القرآن، والتطرف هنا لا يعني التشدد فقط، لكن يعنى أيضاً محاولات المسخ التي يحاول البعض بها تفريغ بعض الآيات القرآنية من مضامينها الصحيحة.
ويضيف «نشر الوعي بأهمية التعرف إلى المعاني الصحيحة للقرآن مطلوب في هذا العصر أكثر من أي وقت مضى، لأن المنشورات التي تحمل معاني غير صحيحة لكثير من الآيات كثرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وسوف يقع البسطاء من الناس في فخ التزييف والتضليل بتداول هذه المنشورات. واجبنا أن نحذر مع إيماننا الكامل بأن الله حافظ لكتابه، فهو سبحانه وتعالى القائل: «وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد».
وينتهي رئيس جامعة الأزهر إلى تأكيد أن القرآن الكريم، والذي هو كلام رب العالمين الذي لا يناله التحريف ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يجب أن نتعامل معه بكل الاحترام والتقدير، فلا نفسره على هوانا، ولا نتفاءل من تفاسيره ما يدعيه الجهلاء والمستهينون بقدسيته وجلاله. يجب أن يكون لهذا الكتاب المقدس ما يستحقه من اهتمام وتقدير وقدسية وجلال في نفوسنا. وعلينا أن نتذكر ما قاله الجن في شأن القرآن عندما سمعوه ووصلت معانيه السامية إلى قلوبهم: «إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً»، وقال عنه (الوليد بن المغيرة) قبل إسلامه عندما استمع إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وهو القول الفصل ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل...».
عاطفة دينية وأسلوب أخلاقي
د. مهجة غالب، أستاذة التفسير وعلوم القرآن والعميدة الأزهرية السابقة، تؤكد أن ارتباط جماهير المسلمين بكتابهم السماوي يجعلهم دائماً يستشهدون به، ويتناقلون المنشورات واللوحات التي تحمل بعض آياته التي تحمل دلالات وعظية، وهؤلاء لا ينبغي أن ندينهم لو تناقلوا شيئاً له دلالات مختلفة بحسن نية، لكن واجبنا أن نرشدهم إلى المعاني الصحيحة لتلك النصوص، وهؤلاء لا يمثلون مشكلة؛ بل بالعكس هؤلاء يتبادلون الآيات واللوحات الجمالية التي تحمل نصوص قرآنية بها إرشادات ومعاني أخلاقية نحن في أمس الحاجة إليها الآن.
وتوضح «القرآن دستور سماوي خالد يحمل كل ما يصلح حياة الناس في كل العصور لو التزموا بتعاليمه، وطبقوا أخلاقياته، فكل من يغوص في بحر القرآن الكريم الواسع يجده كنزاً للأخلاق السامية والقيم الرفيعة التي تضبط سلوك الإنسان وتسمو به، ليؤدي واجباته تجاه خالقه وتجاه الآخرين بحرص ورقي وتحضر. القرآن هو الذي يرشدنا لنعبد الله حق العبادة، ونحظى بكامل الأجر والثواب، ونؤدي رسالتنا في الحياة على الوجه الأكمل، ونسهم بفاعلية في بناء ونهضة مجتمعاتنا، ونواجه بقوة وصلابة كل التجاوزات الأخلاقية عملاً بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. لقد أوضح لنا الخالق قيمة القرآن وأهميته في حياتنا فقال سبحانه: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً» فنحن في أمس الحاجة إلى معاني القرآن التي ترشدنا إلى العقيدة الصحيحة، ويدلنا إلى كل ما ينفعنا من سلوك سليم وخلق قويم، ومن يستجيب لهداية القرآن يظفر بالسعادة، ومن يعرض عن منهج القرآن في العقيدة والأخلاق يجلب لنفسه الشقاء والبؤس».
القرآن الكريم منظومة أخلاقية شاملة كما هو منظومة تشريعية متميزة
وتواصل «يجب أن يعلم الجميع أن قراءة القرآن، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته علاج للنفوس من الوسوسة والقلق والحيرة والنفاق والرذائل المختلفة، ورحمة للمؤمنين من العذاب الذي يحزنهم ويشقيهم.. إنه شفاء لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، فأشرقت بنور ربها، وتفتحت لتلقي ما في القرآن من هدايات وإرشادات.. إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والانحراف عن طريق الحق وشفاء لها من الأمراض الأخلاقية التي تفسد العقول والقلوب.. وصدق الله، حيث يقول: «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً».
لذلك لا ترى أستاذة التفسير وعلوم القرآن، حرجاً في نشر وتبادل آيات قرآنية ترشد الآخرين وتوجههم إلى الالتزام الأخلاقي وعمل الخير؛ بل هذا من الأمور الجيدة على مواقع التواصل الاجتماعي شريطة أن يتم التعامل مع النصوص القرآنية بالأسلوب الأخلاقي الذي ينبغي أن نتعامل به مع كلام رب العالمين، وتقول «القرآن الكريم منظومة أخلاقية شاملة كما هو منظومة تشريعية متميزة، فقد جاء القرآن بكل القيم الأخلاقية الرفيعة، ودعا إلى كل ما هو راقٍ ومتحضر من السلوك، وهدفه من وراء ذلك السمو بأخلاق الناس جميعا، ورسم حياة راقية لهم تغلفها كل المعاني الإنسانية الفاضلة».