كثيرة هي «الأيمان» التي تتردّد على ألسنة البعض يومياً، بعضها صادق، ومنها كاذب، ونحن لا ندري تبعات هذه الأيمان، ولا المطلوب منّا بعد ترديدها. لذلك رجعنا إلى عدد من علماء الفتوى والشريعة الإسلامية لكي يوضحوا لنا أشكال وأنواع هذه الأيمان، وكيفية التخلص من تبعاتها، الدينية والأخلاقية، لحماية أنفسنا ممّا تجرّه لنا من ذنوب وآثام.
لا حلف إلا عند الضرورة
البداية مع سؤال مهم: هل الحلف بالله مطلوب شرعاً؟ وما موقف الشرع من كثرة الحلف؟
يقول الفقيه الأزهري د. نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء ومفتي مصر الأسبق «ليس مطلوباً من المسلم أن يحلف إلا عند الضرورة لكي يثبت شيئاً، أو ينفيه، فكثرة الحلف ليست مطلباً شرعياً، والمفترض في المسلم أنه إنسان صادق لا يكذب، وعليه أن يقول الحقيقة من دون حلف. وإذا حلف الإنسان لا ينبغي أن يمنعه حلفه من فعل الخير، فالله تعالى يقول: «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم».
كما أن المقصود باليمين شرعاً هو القَسَم بالله تعالى، أو بصفة من صفاته على شيء أن يفعله الحالِف، أو لا يفعله، وإذا حلف الإنسان لا يكون حلفه إلا بعظيم، وليس أعظم من الله تعالى وصفاته؛ ولذلك قال رسول صلّى الله عليه وسلّم: «أَلَا إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ».
ينبغي توقير اسم الله سبحانه، وتنزيهه عن لغو الكلام، وكثرة الحلف به من دون داعٍ، والاجتهاد في حفظ يمين الله
وهنا ينصح عالم الفتوى الكبير كل مسلم بتجنّب الأيمان، بحيث لا يلجأ إليها إلا مضطراً، ويبين «ينبغي توقير اسم الله سبحانه وتنزيهه عن لغو الكلام، وكثرة الحلف به من دون داعٍ، والاجتهاد في حفظ يمين الله وصيانتها من الحنث، قال الله تعالى: «وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ»، كما عدّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم (اليمين الغموس) وهي اليمين الكاذبة؛ من كبائر الذنوب، وقرنها بالشرك بالله، وعقوق الوالدين، وهي اليمين التي يعقدها صاحبها موقناً كذب نفسه، وتسمى اليمين الكاذبة..
جاء أعرابي الى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الكَبَائِرُ؟ قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ» قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ»، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «اليَمِينُ الغَمُوسُ» قُلْتُ: وَمَا اليَمِينُ الغَمُوسُ؟ قَالَ: «الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ».
كما توضح دار الإفتاء المصرية أن «الله سبحانه وتعالى أمرنا بحفظ الأيمان؛ فقال سبحانه وتعالى: «وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ»، ونهانا عن الإقدام عليها، من دون حاجة مُلحّة لها؛ تعظيماً لله جلّ شأنه، فكلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجلّ وأعلى عند المسلم من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية».
ماذا تفعل في اليمين الغموس؟
يقول مفتي مصر الأسبق «اليمين الغموس حرام شرعاً، وهي من الكبائر باتفاق الفقهاء، ولا كفارة فيها على رأى جمهور الفقهاء.. والأحوط الأخذ بمذهب مَن يرى فيها الكفارة خروجاً من الخلاف، وتمشياً مع أن الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، ومقدار الكفارة إطعام عشرة مساكين، وينبغي على الحالف كذباً أن يبادر بالتوبة، ولو طلب الإنسان مِن الله تعالى المغفرة بصدقٍ وإخلاصٍ لاستجاب له؛ وهو سبحانه القائل: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ».
حكم الحلف بالله كذباً
يؤكد د. عطا السنباطي، عميد كلية الشريعة والقانون بالأزهر، «من حلف بالله كذباً تسمّى يمينه بـ«اليمين» الكاذبة، والفاجرة، والغموس «أي: التي تغمس صاحبها في الإثم والنار؛ وقد قال فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بهَا مَالاً وهو فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وهو عليه غَضْبَانُ»، فأنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَا لذلكَ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هذِه الآيَةَ: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً» إلى قوله سبحانه: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».. لذلك يجب على من حلف بالله كذباً، أن يبادر بالتوبة النصوح، والعزم على عدم العَود إليه مرة أخرى».
ماذا يفعل الشخص إذا حلف على فعل شيء محرّم؟
يجيب د. أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، «من المقرّر شرعاً أن من حلف على فعل شيء وكان هذا الشيء محرماً؛ يجب ألا يعمل في يمينه- أي لا يعمل بهذا اليمين ولا يلتزم بما حلف به- وعليه إخراج كفّارة.. أمّا إن حلف على شيء وكان هذا الشيء مكروهاً، أو ترك مندوب؛ فيسنّ له أن يحنث، ويُخرِج الكفارة».
ويضيف «وعلى العموم إن كان المحلوف عليه قد وُجد أفضل منه فالأولى فيه الحنث، وإخراج الكفّارة؛ وذلك لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا كفّرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير». ففي هذا الحديث، وغيره، دلالة على أن من حلف على فعل شيء، أو تركه، وكان الحنث خيراً من التمادي في اليمين استُحِبَّ له الحنث وتلزمه الكفارة».
ما حكم الشرع في زوج حلف على عدم معاشرة زوجته؟
تجيب د. فتحية الحنفي، أستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر «لا ينبغي استخدام سلاح الأيمان في الخلافات أو الصّراعات الزوجية، وعموماً، فمن حلف على ألا يقترب من زوجته، وألا يعاشرها جنسياً، ولكنه لم يستطع الوفاء بهذا الحلف، فعليه كفارة إن كانت مدة الحلف أقل من أربعة أشهر.. لكن لو كان حلفه على الامتناع عن زوجته أربعة أشهر فذلك يعتبر (إيلاء).. وهنا يطالب بواحد من إثنين: قربان زوجته مع الكفّارة المذكورة.. أو الطلاق، وذلك لقول الله تعالى: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم».
وما الحكم لو حلف الزوج على زوجته ألا تودّ أهلها أو تزورهم؟
تبيّن دار الإفتاء المصرية «هذا زوج قاسٍ، لا يتعامل مع زوجته وأهلها كما حثّ الإسلام، ويمنع زوجته من صِلة رحمها ومودّة أهلها وواجبه أن يعينها على ذلك.. وعلى كل حال، لو فعل الزوج ذلك عليه أن يراجع نفسه، ويحنث في يمينه، ويكفّر عن هذه اليمين، وكفارة الحنث في اليمين معروفة، وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو صيام ثلاثة أيام لو عجز عن الإطعام، أو الكسوة».
وتشدّد الإفتاء المصرية على أن كل يمين تحول بين الإنسان وبين فعل الخيرات مكروهة، وتلزم صاحبها كفّارة اليمين بالحنث؛ فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من حلف على شيء فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه».
وماذا يفعل المسلم إذا حلف على فعل شيء ولم يفعله؟
يوضح د. عطا السنباطي، عميد كلية الشريعة والقانون بالأزهر وعضو لجنة الفتوى المركزية «عندما يحلف الإنسان على فعل شيء ولم يفعله، أو ترك شيء ولم يتركه، تسمّى يمينه (منعقدة)، وفي هذه اليمين تجبّ الكفّارة طالما حنث في اليمين، أي لم يفِ بها، حيث حلف فيه المسلم على شيء يَفعله أو لا يفعله، ثم لم يستطع الوفاء بذلك، أو ترتب على الوفاء به إثم أو قطيعة رحم؛ وقد قال رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «وإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ». وكفارة اليمين هذه حدّدها الله -عز وجل- في كتابه الكريم، في قوله: «لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»، أي أن كفّارة اليمين على الترتيب، كالآتي:
- إطعام عشرة مساكين من أوسط طعام أهل البلد الذي يسكن فيه الحالِف، مما اعتاد أن يُطعِم منه أهله، من غير إسراف، ولا تقتير.
- أو كسوة عشرة مساكين، بثوب يستر العورة، ويكفي لأداء الصلاة فيه، والمرجع في ذلك إلى العُرف وعادة الناس، وعتق الرقبة لم تعد موجودة وذهب محلها بانتهاء الرقّ.
- فإن عجز الحالف عن الأمور السابقة؛ صام ثلاثة أيام، ويلزم تبييت نيّة صيامها من الليل.. ولا يجوز للقادر مادياً أن يستبدل إطعام المساكين أو كسوتهم بالصوم.
ويجوز إخراج قيمة الكفّارة مالاً إذا كانت مصلحة الفقير في ذلك».
كيف نتصرف لو كرّرنا الحلف على شيء واحد أكثر من مرة؟
يقول عضو لجنة الفتوى المركزية بالأزهر «إذا تكرر الحلف على محلوف عليه واحد، كفت عنه كفارة واحدة.. أما إن تعددت الأيمان على أفعال مختلفة لزم التكفير عن كل يمين منها بكفارة مستقلة، إذا حنث فيها جميعاً. وكفارة اليمين واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها إلا عند العجز عن الوفاء بها فوراً».
ما هي يمين اللغو.. وما كفّارتها؟
والنوع الثالث من الإيمان بعد اليمين الغموس والمنعقدة، هي (يمين اللغو) وهي التي تجري على ألسنة الناس عفواً من دون قصد على فعل أمر، أو تركه، وهذه اليمين لا كفارة فيها رحمة من الله تعالى بعباده، فقد ورد عن السيدة عائشة- رضي الله عنها- في تفسير قول الله تعالى: «لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ»، قَالَتْ: «أُنْزِلَتْ فِي مثل قَوْلِهِ: لاَ وَاللَّهِ، بَلَى وَاللَّهِ».
لكن ينصح د. عطا السنباطي كل مسلم بعدم جريان الحلف بالله على لسانه بداع، ومن دون داع، كما هو حال بعض الناس، ويذكر الجميع بقول الله سبحانه: «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم».
حكم الحلف على المصحف
وما حكم الشرع في الحلف على المصحف وهو الشائع على ألسنة كثير من الناس؟ وهل يجوز للإنسان أن يحلف بأبيه وأمه اللذين يعتز بهما؟
يجيب د. أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، «الحلف على المصحف يمين بالله، لا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه الحلف به، وهذه اليمين من الأيمان المنعقدة التي تجب فيها الكفارة إن حنث الحالف في يمينه. ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت».