أتقن تمثيل دور الصهر المثالي والأرمل الحزين
كان جوناثان دافال يوصف بأنه الصهر المثالي. ولما عثروا على زوجته أليكسيا جثة بلا حراك في الغابة القريبة من بيتها، لم يشكّ أحد في الزوج بل تعاطف الجميع معه، وفي مقدمتهم والدا القتيلة اللذين طبطبا عليه وهو يمشي حزيناً في جنازتها، والدموع تهطل من عينيه. كيف انكشف بعد ثلاث سنوات من التمويه واضطر للاعتراف بفعلته؟
لم يصدق الفرنسيون أسماعهم وهم يتابعون محاكمة جوناثان دافال ويرونه مطأطأ الرأس يطلب المغفرة، بعد أن أصدر القاضي حكماً بسجنه لمدة 25 عاماً. ورغم ثقل المحكومية فإن محاميته اعتبرت القرار انتصاراً لها نظراً لأن المدعي العالم كان قد طلب له السجن المؤبد. وبعد فترة طويلة من تمثيل دور الزوج المحطم والحزين لفقدان زوجته، تراجع المتهم وأقر بأنه هو من قتل أليكسيا ليلة 28 من تشرين الأول 2017. وحال النطق بالحكم أعلن المتهم أنه يقبل به ولن يستأنفه.
يبلغ دافال من العمر 36 عاماً. وهو خبير حاسبات يعيش عيشة هادئة ومستورة مع زوجته الشابة التي ارتبط بها عن حب، قبل أن تقع المأساة التي بقيت بدون تبرير. لماذا قتلها؟ وكيف استطاع نكران الجريمة والتعاون مع الشرطة في سبيل وضع اليد على المجرم؟ بل كيف لعب دور الصهر الطيب الذي يحاول بكل الوسائل مواساة والدي الضحية المفجوعين بموت ابنتهما؟ القصة تستحق أن تروى، خصوصاً وأن أخبار المحاكمة تصدرت عناوين الصحف طوال الأسبوعين الماضيين. وعلى مدار ستة أيام من الجلسات في محكمة الجنايات في منطقة «بلفور»، أقصى شرق فرنسا، عاش المتابعون لحظة بلحظة تفاصيل تلك الجريمة التي بقيت غامضة مثل رواية ناقصة تبحث عن مؤلف يضع لها نقطة الختام.
دموع التماسيح
الزوجة، أليكسيا، كانت تبلغ من العمر 29 عاماً وتعمل موظفة في أحد المصارف. اختفت من بيتها بدون سبب أو إخطار. وبعد ثلاثة أيام من الغياب عثرت الشرطة على جثتها في غابة قريبة من منطقة سكنها، وكانت ملفوفة بشرشف ومحترقة في أجزاء من جسمها. وكما هي العادة في مثل هذه الحوادث، بدأت التحقيقات لمعرفة سبب الوفاة، وتتابع الشهود وخبراء الطب العدلي أمام المحققين. ونظراً للإغلاق بسبب «كورونا» جرت المحاكمة عبر الشاشات بعد أن تأكد المحققون من أنها ماتت مخنوقة. وكان من الطبيعي أن يكون الزوج أول من يجرى استجوابه. وبسبب عدم توفر الأدلة والشبهات ضده فقد جرى استبعاده من دائرة الاتهام، خصوصاً وأنه كان شديد التعاون مع الشرطة ولا يتوقف عن التعبير عن حزنه لوفاة زوجته. لكن المحققين، مرة بعد أخرى، كانوا يدورون في دائرة المقربين من الضحية دون أن يعثروا على من يمكن أن تكون له مصلحة في قتلها وحرقها بذلك الشكل الشنيع.
وقد حاول زوجها اتهام جار لهم بالقول إنه كان ينظر إلى أليكسيا نظرات اشتهاء ويمطرها بالرسائل الهاتفية. لكن كل الأصابع كانت تشير إلى جوناثان رغم أنه أجاد تمثيل دور الحمل الوديع. وعودة إلى المربع الأول، عادوا لسؤال الزوج ولاحظوا أنه يقدم روايات مختلفة في كل مرة. وكان عند المجابهة يسكت ثم يقول «نعم كل أسئلتكم صحيحة لكنني لا أملك تفسيراً لها». لكن المحققين شددوا الضغط عليه بطريقة انتهت إلى اعترافه بأنه الجاني.
والدا الزوجة القتيلة
من الأمور التي لم يستطع تبريرها أن الشرشف الذي جرى لف القتيلة به كان له مثيل في بيت المتهم. كما أن أحد الجيران شهد بأنه سمع صوت خروج سيارة المتهم من المرآب الملاصق لبيته، وكان الوقت بعد انتصاف الليل، في حين أن القاتل زعم بأنه عاد مع زوجته من عشاء في بيت أسرتها وناما حتى الصباح حين خرجت الزوجة لممارسة رياضة الجري. والدليل الثالث جاء من الشركة التي يعمل فيها المتهم والتي يستخدم سيارتها في عمله وتبقى السيارة معه في البيت. ذلك أن السيارة مزودة بنظام يسمح بتتبع المسافات التي تقطعها، وقد سجلت الشركة عدة تحركات للسيارة خلال ليلة الحادث.
خنقها وأحرقها لأنها كانت تهينه وتضربه
لم يكن الاعتراف وحده كافياً بل أراد والدا الضحية معرفة السبب. لقد كانت صدمتهما بمقتل ابنتهما كبيرة لكن صدمتهما باعتراف الصهر كانت أكبر. إن الزوجين الشابين لم يختلفا ذات يوم، ولا أحد سمع بمشاجرات بينهما، لكن يبدو أن المظاهر كانت خداعة.
فقد اشتكت أليكسيا لإحدى صديقاتها من خلافاتها المستمرة مع جوناثان، وقالت لها بالحرف الواحد «أن أعيش وحيدة أفضل من تحمل زوج مثله». لذلك تركز سؤال القاضي على سبب القتل، وجاء الجواب مذهلاً للجميع. قال جوناثان ما معناه أن السيل بلغ الزبى، وأضاف «تخلصت منها لأنني لم أعد أحتمل إهاناتها لي. كانت تضربني وتصفعني حتى فقدت السيطرة على نفسي في واحدة من مشاجراتها معي». وبحسب روايته فإنهما كانا يتشاجران بسبب رغبتها في إنجاب طفل وهو أمر لم يتحقق لهما. وهي كانت تتناول علاجاً هرمونياً لتسهيل الحمل وبسبب تلك الهرمونات زادت عصبيتها وصارت تعيره بأنه ليس رجلاً.
وفي ليلة الحادث تشاجرا وهاجت وبدأت توجه له اللطمات فاحتضنها لكي يكبّل يديها وقادها إلى الفراش وفوجئ بأنها لم تعد تتنفس. قال إن الأمر جرى بدون قصد منه. وهو قد ارتبك حين وجدها ميتة، واعترف بأنه أخذها إلى الغابة ووضع نظارات الشمس على عينيها وغطاها بشرشف على سبيل الستر. ونفى الزوج علاقته بالحروق التي وجدت على الجثة.
الحقيقة تظهر
هذه رواية القاتل. أما التحقيقات فترسم للجريمة «سيناريو» مغايراً. لقد تشاجرا وقام بخبط رأسها بالحائط، وهناك آثار عنف على وجهها. ولما بدأت بالصراخ خنقها ونقل جثتها بالسيارة إلى الغابة وحاول إحراقها لطمس ملامحها بالنار. والغريب أن أقارب الضحية لم يصدقوا مبررات القاتل للوهلة الأولى، وكانوا مقتنعين بأنه لم يرتكب جريمته في لحظة غضب عارم بل لأنه شعر بأن زوجته تنوي أن تنفصل عنه. وصرحت إيزابيل فويو، والدة أليكسيا، للصحافة قائلة «أشعر بأننا لا نعرف ما الذي حصل بالضبط وسنتعذب لأننا لا نملك الحقيقة». لكن الوالدة عادت وقالت بعد انتهاء المحاكمة «نحن راضون بالحكم تماماً وبسجن القاتل لمدة يستحقها. وحان الوقت لكي نرمم حياتنا التي تصدعت لفقدان ابنتنا».
أما ستيفاني، شقيقة الضحية، فقالت إنها راضية أيضاً وقد قام رجال العدالة بواجبهم وتتمنى أن يكون الحكم عبرة لكل زوج عنيف.
كانت ستيفاني قد تلقت في الصباح الباكر رسالة هاتفية من شقيقتها الصغرى أليكسيا جاء فيها «هللو، انهضي من النوم. سأذهب للجري في الغابة وقد أمر عليكم لألقي التحية.. قبلاتي». وقد تبين فيما بعد أن جوناثان هو الذي بعث الرسالة من هاتف زوجته غداة قتلها. تقول الأخت إنها عند تلقي الرسالة لم تكن قد نهضت من سريرها، فاليوم كان السبت وهو عطلة أسبوعية.
كما أنها كانت متعبة من سهرة الليلة الماضية في بيت الوالدين، بحضور كل أفراد العائلة. وكان مقرراً بقاء أليكسيا وجوناثان للمبيت عند الوالدين. وبعد رسالة أليكسيا بساعتين تلقت ستيفاني نداء من والدتها، كانت الأم في قلق شديد لأن الصهر أخبرها بخروج زوجته لممارسة الجري في الغابة ولم تعد منذ ساعات. وزاد من قلق الأم أن جوناثان كان يبكي وكأنه فقد أليكسيا. لم تفهم لماذا يتصرف وكأن الأمل مقطوع في العثور عليها أو عودتها إلى بيتها.
شارك في جنازة زوجته وبدا حزيناً
حاول الكل التخفيف عنه بالقول إنها ربما صادفت واحدة من صديقاتها ومضت لتشرب القهوة معها أو للتسوق مثلاً. لكن الصهر كان يائساً ومنهاراً بحيث إن حماته حاولت التخفيف عنه وهي تقول «لماذا تضع في بالك أسوأ الاحتمالات؟». لم تتصور أنه وحده كان يعرف مصير زوجته وبأنها لن تعود. وبعد مرور يومين على اختفاء الزوجة صار الجميع مقتنعين بأن هناك خبراً سيئاً في طريقه إلى العائلة. وقد تبين أن الأسوأ هو الاحتمال الصحيح، لاسيما بعد العثور على جثة أليكسيا.
صباح التاسع والعشرين من يناير 2019، بعد أشهر طوال على الحادث، فتح جوناثان باب البيت للذهاب إلى العمل حين وجد خمسة أفراد من الشرطة جاءوا للقبض عليه. كان المحققون قد قاموا، على مدى سنتين، بكل ما في وسعهم لمعرفة وقائع الساعات الأخيرة من حياة الضحية. إن كل شيء واضح لكن الأحداث لا تتطابق مع بعضها البعض.
كيف يمكن للزوجة الشابة أن تخرج للجري مرتدية سروالاً قصيراً في صباح ثلجي ودرجة حرارة تبلغ 3 مئوية؟ ولماذا كانت ملفوفة بغطاء؟ وكيف بقيت نظاراتها الشمسية على وجهها ولم تسقط؟ بدأت الخيوط تتوضح أكثر فأكثر عندما تقدم الشهود من أصدقاء الطرفين بوصف للزوج والزوجة.
لقد اتفقوا على وصف أليكسيا بالشخصية القوية الناجحة التي تعرف ما تريد، مقابل زوجها جوناثان الضعيف والمتردد والذي تلاحقه هفوات وشكاوى ارتكبها في عمله. أنهما الثنائي غير المنسجم الذي يتظاهر بالسعادة. وقد أراد الزوج الاحتفاظ بزوجته لأنها الواجهة الصلبة للحياة التي يعيشها، فلما شعر بأنها تنوي الانفصال جن جنونه وخنقها. وهو لم يتوقف خلال جلسات المحكمة عن ترديد عبرة «كانت تضربني... كانت تضربني».
جريمة تبدو عادية وهناك العشرات مما يشبهها. لكن احتباس الفرنسيين في بيوتهم بسبب «كورونا» جعلهم يتابعون وقائعها وكأنها القشة التي يتمسكون بها لئلا تبتلعهم موجة الكآبة. كان مسلسل جوناثان دافال هو الأشد إثارة بعد أن حفظوا مسلسلات «نيتفليكس» وكل الأفلام. وفي مثل هذا النوع من الجرائم، يستند القضاة في إصدار أحكامهم على درجة الندم التي يبديها المتهم وهو يعترف بفعلته. وقد تأخر القاتل كثيراً في التعبير عن الندم، واكتفى بأن يعبر للمحققين ورجال الشرطة عن أسفه لأنه استنفد جهودهم طوال سنتين. وفي الجلسة الأخيرة فقط، وقف المتهم وقال «سامحوني... سامحوني». كررها مرتين وعاد للجلوس. ولم يكن ينظر باتجاه والدي أليكسيا وشقيقتها الجالسين في مقاعد الحضور. هكذا انتهى المسلسل.