مضت صديقتي التونسية الأثيرة إلى حيث تمضي الأرواح. كانت شخصية معجونة بماء النار. وقد سبق وحدثتكم عن بعض مواقفها ومقالبها.
كان اسمها جميلة وهي جميلة. ولم تكن تلك صفتها الوحيدة. فهي مخلصة وعنيدة وغيورة على الحق وقارئة نهمة ذات فضول لا يرتوي. كانت مستعدة للدفاع عن كل القضايا والسير في كل التظاهرات، من نصرة أطفال الحجارة في فلسطين إلى النساء المضطهدات في إيران. لكن ثقافة صديقتي لم تأت من المطالعة بالدرجة الأولى بل من التعارك مع الحياة.
ارتدت جميلة أبهى ثيابها، ذات يوم، ومضت لتقابل رئيسة تحرير واحدة من أشهر المجلات النسائية في فرنسا. دخلت عليها وهي تحمل ثلاثة أغلفة مختلفة من المجلة. كانت ملفات تلك الأعداد مخصصة للحفاظ على الشباب والتعريف بأحدث مستحضرات مقاومة التجاعيد. فرشت صديقتي الأعداد الثلاثة على طاولة رئيسة التحرير وقالت لها: «أنت تنشرين على الغلاف صوراً لعارضات أزياء دون العشرين من العمر وتريدين من خلالها بيع مراهم لسيدات تجاوزن الخمسين. لماذا تكذبين عليّ وعلى باقي قارئاتك؟».
فوجئت المحررة المرموقة وسارعت تطلب فنجان قهوة لضيفتها التي تجيد الفرنسية بطلاقة وبلاغة. وارتشفت جميلة بمنتهى الأناقة جرعة واحدة ثم أعادت الفنجان إلى الصحن. أشارت إلى جبهتها التي حفرت فيها السنوات خطوطًا بالعرض وقالت: «هذا تاريخي مرسوم بين عينيّ ولن يسعدني أن أمحوه. قد ألجأ إلى تمويهه بمسحوق شفاف لكن أي عقار لن يعيدني إلى سن العشرين».
أتذكر جميلة وأنا أتفرج على إعلان تلفزيوني عن واحد من تلك العصارات التي تمتلئ بها الأسواق. إن للفرنسيين موهبة في توصيف الأشياء بما يجعلها أخف من حقيقتها. فالوجه المتغضن هو «ضحكة الأسد». والجلد المتجعد هو «شعاعات الشمس». أما الخطوط التي تظهر عند زوايا العيون فإنهم يسمونها «قدم البطة». لماذا البطة؟ لأن قدمها تنفرج ثلاثياً كالمروحة. ولعل الباريسيات لا يحببن التعايش مع قدم البطة ولا مع ساق الإوزة. لهذا يأتي أصحاب الإعلان بعارضة حسناء تقول إن عمرها أربعين عاماً وقد تخلصت من آثار الزمن في ملامحها.
ماذا يتبقى من المرء إذا محا ماضيه بالممحاة؟ هل سيفوز بعمر جديد؟ كنت شديدة الإعجاب بالممثل الأميركي روبرت ردفورد إلى أن ارتكب خطأ العمر وخضع لعملية شد البشرة. إن تعابير الوجه هي رأسمال الممثل. فكيف نقتنع بأن الشخصية حزينة، أو غاضبة، أو مستريحة، إذا كانت السحنة ثابتة لا تتحرك وتتجاوب؟ أما الممثلات فالشدّ مغفور لهن لأن الشكل يأتي غالباً قبل الموهبة.
صديقتي جميلة كانت صاحبة أشهر تقطيبة في العالم. إذا غضبت أو استهجنت وعقدت ما بين حاجبيها فإن إعصاراً آتياً في الطريق. أما إذا انفرجت ملامحها فهو الوعد بمهرجانات من اللطافة والفكاهة. هل تستوي الوجوه الخرساء والوجوه التي تقرأ وتكتب وتغني «حسيبك للزمن»؟.