28 يناير 2021

إنعام كجه جي تكتب: في الطوارئ

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.

يقولون إن أجمل الشعر أكذبه. لكن هناك مواقف في الحياة تضع كلام القصائد على المحك، فإذا بك تردد بيتاً من الشعر ينطبق على حالتك وكأنه مكتوب هذه الساعة، وليس قبل كذا مئة عام. كم كان أبو العلاء المعري حكيماً عندما قال: «تقفون والفلك المُسخّر دائرٌ / وتُقدّرون فتضحك الأقدارُ».

كنت أمنّي النفس بأنني سأتلقى اللقاح وأتخلص من الحيطة والقلق. سأعود لمعانقة أحبتي وسأطالع وجوههم بدون كمامات تحجب ما بيننا من ابتسامات ودّ وصفاء. حلمت بأنني سأركب طائرة من جديد، وسأنزل إلى المقهى القريب وسأتناول «الكسكسي» في المطعم المغربي. لكن تُقدرون فتضحك الأقدار. وجدت نفسي ذاهبة إلى قسم الطوارئ لإجراء جراحة عاجلة في المرارة. إن المستشفيات ليست من الأماكن التي يرتادها المرء مرتاحاً وعن طيب خاطر، فكيف الحال إذا كنا في زمن «كورونا»، وأقسام الطوارئ هي مقصد عشرات المصابين؟

يقع مستشفى «لا بيتييه» مقابل المبنى الذي أقيم فيه في باريس. أعبر الشارع فأكون أمام بوابته الجنوبية. إنه أقدم مستشفى في أوروبا وأكبرها مساحة. عمره 600 سنة. يتألف من عشرات المباني العريقة التي تفصل ما بينها الحدائق وطرقات السيارات. وهناك حافلة تدور على مدار الساعة ما بين الأقسام المختلفة وتنقل المرضى والزائرين. وبحكم الجيرة واحتياجات العلاج، فإنني أعرف هذا المستشفى جيداً، وفيه وضعت ابنتي، وفيه تعافى الكثير من معارفي، ويؤسفني أن يوصف بأنه المستشفى الذي توفيت فيه الأميرة ديانا.

ماذا وجدت عند وصولي؟ ليس هذا هو مبنى الطوارئ الذي أعرف بل خيمة صفراء أقيمت على عجل عند المدخل، تتوزع فيها النقالات وتتحرك في داخلها أشباح ترتدي البياض من قمة الرأس حتى أخمص القدم، وكأننا في مستشفى ميداني من تلك التي نراها في أفلام الخيال العلمي.

كان الطقس صقيعياً. ورأيت مرضى الجائحة يئنون على النقالات ويتقلبون طلباً للهواء. وكانت الممرضات المكلفات باستقبال الحالات الطارئة يقررن من الذي يستحق الالتفات إليه قبل غيره. وطبعاً فإنني، وحصاة مرارتي، كنت في آخر القائمة. بل إنني خجلت من نفسي وكتمت آهاتي، وتلفلفت بكل ما معي من أوشحة تفادياً لهواء الخيمة. صرت شبحاً مقمّط الرأس، «كومبارس» في فيلم الخيال الكارثي.

أكتب هذه الكلمات بعد أن أشفقت عليّ السماء وانتهت الجراحة على خير وغادرت المستشفى. لكنني ما زلت أحجر نفسي عن أهل بيتي للتأكد من السلامة. أردت الذهاب إلى المطعم لتناول طبق شهي فانتهيت بطاسة من البلاستيك فيها محلول باهت يزعمون أنه شوربة.

 

مقالات ذات صلة